عدا عن موجات الهجاء او الدعاء، فإنه يندر الوقوع على نقاش سوري جدي حول ما يدور هذه الايام في أرياف الحاضرتين السوريتين الأكبر والأهم، العاصمة دمشق وحلب، وهو ليس مجرد شأن عسكري لا يعني الا المحاربين، ولا يدركه الا الراسخون في الحرب.
قيل الكثير عن تمكن النظام السوري من تهجير أهالي بلدة داريا في ريف دمشق الغربي، لكنه كان كلاماً عاطفياً مؤثراً عن أيقونة الثورة السورية وأسطورتها السلمية ورمزيتها السياسية، لم يجب على أي من الاسئلة التي طرحت حول تلك النكسة الجديدة للمعارضة السورية، وتتطلب شرح الاسباب والظروف والنتائج.. ومنها النتيجة المحرمة التي يتكرر الحديث عنها مع كل تحول عسكري في الحرب السورية، وهي التغيير الديموغرافي.
وفي غياب أي عنوان سوري يمكن التوجه إليه بهذه الاسئلة، يصبح الاستنتاج بان الغلبة في العاصمة وريفها ما زالت للنظام، هو المنطق العسكري (والسياسي) الوحيد السائد، ويجعل بقية البلدات العاصية في محيط دمشق عرضة للتدمير ثم التهجير في الفترة المقبلة، إنفاذاً لخطة النظام الثابتة والدائمة على جميع الجبهات السورية.
اما كيف حوصرت داريا ثم دُمرت ثم أُفرغت من سكانها، وهل كان يمكن إنقاذها من هذا المصير الاسود، فتلك قضية غير مطروحة على جدول أعمال أحد من المعارضة السورية، وغير متصلة حتى بالمحصلة النهائية وهي ان النظام لم يستطع إقتحام البلدة المتمردة بالقوة، ولم يجروء على الاشتباك مع المدافعين عنها، او ربما لم يستطع تحمل كلفة ذلك الاشتباك معهم، فاختار السماح لهم بالخروج الآمن، على غرار ما فعل في أنحاء أخرى من ريفي دمشق وحمص.
حتى المسألة الديموغرافية لم تثر الاهتمام الكافي ما خلا بعض الاشارات العابرة حتى الان عن نوايا مبيتة لدى النظام لاحلال لبنانيين او ربما عراقيين او حتى ايرانيين في البلدة المنكوبة الواقعة على مقربة من خط دمشق بيروت.. وهو ما يبدو صعباً على أرض الواقع، لأن إعادة بناء داريا وجعلها مكاناً صالحاً للسكن مرة أخرى يحتاج الى جهد ووقت ومال إستثنائي.  
التعامل مع داريا بوصفها معضلة إنسانية يخفف من وطأة فراغ سياسي كشفته البلدة التي سويت بالارض، ولم تجد من الائتلاف ولا من بقية فصائل المعارضة من يتقدم لتحمل المسؤولية، ويدعو الى المحاسبة او على الاقل الى المراجعة لمجمل التجربة التي يزداد تعقيدها وتشرذمها.. وبشكل لم تعرفه حتى الحرب الاهلية اللبنانية في أسوأ مراحلها.
مأساة داريا هي بلا شك سقطة كبرى للمعارضة السورية، ليس فقط لمكانتها الخاصة في ذاكرة الثورة، بل أساساً لموقعها الجغرافي المتصل بالعاصمة التي يكاد النظام يعلنها منطقة خالية من المعارضين، فيحقق بذلك مكسباً سياسياً مهماً لا يمكن ان تعوضه معركة حلب التي كشفت عن حدود قدراته القتالية وأوراقه السياسية.
ليس هناك دليل على ان النظام يرد في ريف دمشق على هزائمه في ريف حلب. لكن الفكرة واردة، بل راجحة. فالدخول العسكري التركي في الشمال السوري الذي يتمتع بغطاء اميركي روسي ليس تفصيلاً بسيطاً في سياق الحرب السورية، ولا يمكن حصره بتصفية داعش او بمحاربة الكرد، او حتى بالمنطقة الامنية التي طال إنتظارها، والتي لا تكفي لقياس النفوذ التركي الفعلي في سوريا، بل ربما تؤدي الى تحجيمه. ثمة ما يوحي بان العاصمة السورية الاولى ستكون مقابل العاصمة السورية الثانية. ولعل هذا هو المسعى الجديد لضمان إستقرار موازين القوى الداخلية، والخارجية على حد سواء.. تمهيداً لاستئناف البحث عن تسوية سياسية تنهي الحرب.
لم تقترب تلك التسوية، ولم تظهر النهاية في الافق. الصراع الحالي على العاصمتين السوريتين، هو في جانب منه صراع بين العاصمتين، وهو صراع تاريخي قديم، ومستقبلي حاسم في تحديد هوية الدولة السورية المقبلة.