عندما أعطى الأميركان خلال اليومين الماضيين الضوء الأخضر لأنقرة حتى تحرّكَ قواتها لمساندة فصائل من الجيش السوري الحر وهي تتجه نحو مدينة جرابلس السورية (125 شمال شرق مدينة حلب) والمحاذية للحدود التركية بهدف السيطرة عليها بعد طرد تنظيم داعش منها، بدا واضحا أن هذا يشي بتحول في الموقف الأميركي، بما له صلة مباشرة بتداعيات الملف السوري على أنقرة.
في ظل هذا التحول ليس مستبعدا أن يمتدّ التحرك التركي إلى مسافة أبعد من جرابلس ليصل إلى مدينة الباب (38 كم شمال شرق مدينة حلب) التي مازالت تحت سيطرة تنظيم داعش، وصولا إلى مدينة منبج التي استطاعت قوات سوريا الديمقراطية في مطلع شهر أغسطس الحالي أن تنتزعها من تنظيم داعش.

لم يعد سرّا أن الموقف الأميركي الجديد الداعم لتركيا تم الكشف عنه بوضوح خلال زيارة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، الأخيرة إلى أنقرة منتصف هذا الأسبوع، وإعلانه من هناك بأن الإدارة الأميركية سبق أن أبلغت قوات سوريا الديمقراطية بأن تبقى في منطقة شرق الفرات التي تقطنها أغلبية كردية، وحذرتها بأنها سوف لن تتلقى دعما منها فيما لو عبرت نهر الفرات صوب جهته الغربية التي تسكنها أغلبية سكانية عربية. وعلى ما يبدو فإن أميركا بموقفها الداعم للتحرك العسكري التركي كانت تهدف إلى أن توجه رسالة لا تبعث على الارتياح إلى قوات سوريا الديمقراطية لأنها لم تلتزم بالحدود التي رسمتها لها.

في نفس الوقت يكشف هذا الموقف عن توافق إقليمي ودولي، وربما ستفاجئنا الأيام القادمة بأن هذا التحرك العسكري يهدف إلى ما هو أبعد من تأمين الشريط الحدودي الذي يفصل ما بين سوريا وتركيا، فهنالك من المراقبين من يجد فيه مقدمة لتمهيد الأجواء في سبيل فتح حوار مستقبلي يجري حول طاولة مستديرة واحدة بين جميع أطراف الصراع، بما في ذلك النظام الحاكم في دمشق، من بعد أن يستكمل هذا التحرك العسكري أهدافه البعيدة التي ربما ستصل إلى مدينة الرقة معقل تنظيم داعش.

السؤال الذي يطرح هنا انطلاقا من الأحداث المتسارعة على الجبهات الشمالية: لماذا هذا التحول في الموقف الأميركي، وما هي أهمية توقيته؟

ربما الموضوع له صلة وثيقة بمسعى البيت الأبيض الهادف إلى إعادة ترميم ما أصاب علاقته مع أنقرة من توتر بعد الانقلاب العسكري الفاشل، والتأكيد على أهمية تركيا باعتبارها حليفا استراتيجيا في المنطقة لا يمكن التفريط أو الاستغناء عنها أو عن دورها الإقليمي.

على ذلك يمكن القول بأن الموقف الأميركي لم يتغير من ناحية أنقرة، ولا يزال داعما لأمنها القومي ولا يسعى إلى التفريط في علاقته المميزة والتاريخية معها خاصة وأنها جزء من حلف شمال الأطلسي، وبذلك لن يكون الموقف الأميركي الداعم لقوات سوريا الديمقراطية، بأي حال من الأحوال، على حساب قوة إقليمية وحليف استراتيجي مثل تركيا.

من جانبها أيضا تسعى أنقرة إلى إرضاء الولايات المتحدة من خلال مساهمتها الفعلية في الحرب على تنظيم داعش وطرده من مدينتي جرابلس والباب، وبذلك ستسحب هذه الورقة الضاغطة من الأطراف الأخرى التي ما انفكت تلوّح بها في وجه أنقرة، باعتبارها لم تقدم جهدا عسكريا يؤكد مصداقية عدائها لتنظيم داعش، كما أنها تدرك، جيدا، بأن أميركا قادرة ولوحدها على أن تجعل قوات سوريا الديمقراطية تنسحب عائدة إلى شرق الفرات دون قتال وبإيعاز منها.

حتى الأربعاء الماضي -أي قبل سيطرة فصائل الجيش الحر المدعومة من قبل القوات التركية- كانت الولايات المتحدة الأميركية قد منعت تركيا من التحرك عسكريا والمشاركة في الصراع الدائر داخل سوريا، على عكس الموقف الذي رشح عنها خلال اليومين الماضيين، وأفصح هذا التحوّل على أن تركيا كانت تخضع للإرادة الدولية ممثلة بأميركا، ولم تكن تستطيع أن تتصرف خارج هذه الإرادة، وأن هناك حدودا مرسومة بدقة للدول الإقليمية لا تستطيع الخروج عنها في بعض الملفات الحساسة، إلا إذا تلقت إيعازا يمنحها الفرصة بالتحرك.

إلى ماذا تهدف تركيا من وراء تحركاتها العسكرية الأخيرة؟

خلال الأشهر الماضية ما كان يؤرق أنقرة هو خطورة وجود تنظيم داعش في المدن التي سيطر عليها، والتي تقع عند الشريط الحدودي الذي يفصلها عن الأراضي السورية، وقد تصاعد هذا الخطر بعد أن استُهدفت المدن التركية الحدودية بالصواريخ من قبل التنظيم، من هنا تأتي أولوية طرده من هذه المناطق بالنسبة إليها.

أيضا يشكل الشمال السوري جزءا حيويا من أمن تركيا القومي، لأنه يتعلق بتمدد قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية في هذه المنطقة خلال أحداث الثورة السورية، وقد وجدت أنقرة أن هذا العامل الجديد سيترك آثارا وتداعيات بالغة الحساسية على جنوب شرق البلاد، ذي الغالبية الكردية الذي يحلم سكانه بإقامة إقليم ذاتي سيكون بالنسبة إليهم مقدمة أساسية لتحقيق ما يطمحون إليه منذ زمن بعيد بالاستقلال وإعلان دولتهم التي ستمتد رقعتها لتشمل أيضا الأراضي التي باتت تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب. ولهذا تسعى تركيا بكل ما لديها من جهد وإمكانيات إلى إزاحتهم من جميع الأراضي الواقعة على غرب نهر الفرات، وإعادتهم إلى الضفة الشرقية منه والتي تقطنها غالبية كردية.

ما كان باستطاعة الأتراك أن ينطلقوا بهذه القوة لتحقيق هذا الهدف لو لم يكن هناك تطابق في الموقف بينهم وبين الأميركان، وهذا ما عكسه تصريح نائب الرئيس الأميركي جون بايدن أثناء زيارته لتركيا منتصف هذا الأسبوع، عندما قال “لن ندعم أي فصيل كردي إذا ما تجاوز التعليمات ووصل إلى غرب الفرات”. فكان هذا التصريح يحمل ما يكفي من الوضوح لكي يمنح الأتراك الضوء الأخضر للتحرك.

هل هذا يعني أن الأميركان لا يدعمون قيام منطقة كردية مستقلة في شمال سوريا؟ وإذا كان الأمر كذلك، كيف لنا أن نفسر الدعم الكبير الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى قوات سوريا الديمقراطية؟ ولماذا ترغمهم، مرة أخرى، على الوقوف في منتصف الطريق المؤدي إلى حلمهم، مثلما كانت قد خدعتهم القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى (بريطانيا وفرنسا) بعد توقيع معاهدة سيفر (10 أغسطس 1920) عندما تخلت عن وعدها لهم بإقامة حكم ذاتي؟

ربما تركيا عرفت كيف تستثمر ورقة اللاجئين للضغط على الدول الأوروبية وأميركا بالشكل الذي جعلتهم يمنحونها فرصة إيقاف تحرك الأكراد نحو تحقيق هدفهم بإقامة إقليم كردي في الشمال السوري.

من الواضح أن الولايات المتحدة وهي تتعامل مع الملف الكردي لا تريد أن تغضب أنقرة، وليس في نيتها أن ترغمها على القبول بحلول ليس بإمكان تركيا القبول بها، رغم أن واشنطن مازالت تراهن على الأكراد، دون غيرهم، في حربها ضد تنظيم داعش.

اللقاء الذي سيجمع جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة مع سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي في واشنطن الأسبوع المقبل ومن ثم في جنيف، سيرشح عنه من المعلومات ما يمكن من خلالها تفسير الغموض الذي بات يلف الكثير من الأحداث التي سيكون لها دور في تحديد الخارطة السورية على الأرض.

 

 

مروان ياسين الدليمي: العرب