غُيّب الإمام موسى الصدر مؤسِّس "حركة أمل" بل مفجّر نهضة الشيعة في لبنان، وموفّر مساواتهم بالطوائف الكبرى داخله من مسلمين ومسيحيين، قبل تأسيس إيران الإسلامية لـ"حزب الله" بأربع سنوات. ورغم ذلك لم يعتبر الاثنان أن التغييب يستحق الذكر في البداية ثم الإدانة، وأن "العملاق" يستحق الإشادة. أما أسباب هذا الموقف فكثيرة في رأي محللين تابعوا عن كثب المسيرة الشيعية يوم كانت تقليدية إقطاعية، ويوم بدأ تحوّلها مقاومة ضد الاقطاع، ومقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي لأجزاء من لبنان، ومقاومة مصادرة الوجود الفلسطيني المسلّح إرادة اللبنانيين بذريعة محاربة إسرائيل، ومقاومة للحرمان في الداخل اللبناني تمثّلت بالعمل السياسي والعسكري مع آخرين لتعديل النظام الذي تسبّب به أو لتغييره.
أول الأسباب صراع سوريا حافظ الأسد، التي كانت موجودة بقوة في لبنان وساعية إلى الإمساك به كاملاً، مع إيران الثورة الإسلامية التي أرادت الإفادة من تحالفها الاستراتيجي مع دمشق لتأسيس وجود شيعي لبناني قوي وفاعل سياسياً وعسكرياً مهمته الأساسية إزالة الاحتلال الاسرائيلي. ورفض سوريا أن يشاركها أحد سيطرتها على لبنان وإن حليفاً مهماً. وتحوّل هذا الصراع عسكرياً ولكن بالوكالة إذ خاضته "حركة أمل" و"حزب الله" واستمر سنوات وتسبب بمقتل وجرح الآلاف من الشيعة، وانتهى طبعاً في أواخر الثمانينات من القرن الماضي بتفاهم شامل حصر المقاومة العسكرية لإسرائيل بـ"الحزب" والعمل السياسي الداخلي بـ"الحركة". وطبيعي في أمر كهذا أن يقتصر تذكّر الإمام الصدر على أبنائه في "أمل". وثانيها شعور قسم من شيعة لبنان أن ايران الاسلامية لم تقم بما كانوا يتوقعونه منها لجلاء مصير الإمام المغيّب، أو لإعادته ورفاقه الى وطنهم إذا كانوا أحياء رغم علاقتها المعقولة في حينه مع ليبيا معمر القذافي والتي استمرت حتى رحيله المأسوي عن هذه الدنيا. وهو شعور طال أيضاً سوريا الأسد لكن لم يتم التعبير عنه في وضوح للعجز عن ذلك في ظل الحاجة الى حمايتها ورعايتها. وثالثها انتشار معلومات في وسائل إعلام عدة عربية وغربية تثير شكوكاً في علاقة ما للصدر بإيران الشاه قبل الثورة عليه.
متى بدأ الذكر المتدرّج للإمام وإنجازاته اللبنانية؟
عندما قوي عود مقاومة "حزب الله" للاحتلال الاسرائيلي، وعندما أقنع بتضحياته وأدائه وبأمور أخرى شيعة لبنان أنه سينجح في تحريرهم منه وسيمنحهم ذلك وضعاً مميزاً في لبنان. وكانت ذروة إمساك "الحزب" بشيعة لبنان نجاحه عام 2006 في الانتصار عسكرياً على اسرائيل يوم شنّت حرباً ضده وعليه فمنعها من تحقيق أهدافها. طبعاً تصرّف قادته بحكمة مع "حركة أمل" التي تشاركهم مبادئ عدة فأسسوا "ثنائية شيعية" معها "حكّمت" الشيعة، وتحكم الآن "الماكينة اللبنانية" وتسعى الى تعزيز الوضع الشيعي في لبنان الجديد، أي لبنان ما بعد حرب سوريا وليس لبنان ما بعد الطائف.
لكن الذي فاجأ اللبنانيين عموماً والشيعة خصوصاً كانت الإشادة المهمة وإن غير الشاملة من الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله بالمرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله في اطلالته التلفزيونية قبل الأخيرة. علماً أن حرباً ضروساً سياسية وفقهية شنّت عليه بعد اختلافه مع ايران بسبب اعتزامه اعلان مرجعيته استعملت فيها وسائل عدة، وأثّرت على وضعه لكنها لم تحد من حركته، بل قلّصت عدد مقلّديه الذين كان أعضاء "حزب الله" وأنصاره غالبيتهم، ورغم استمراره في تأييدهم. طالت هذه الحرب كثيراً. وبعد رحيله الى جوار ربه توقفت نسبياً لكن محاولة ترويض الحالة الشعبية والمؤسساتية التي أسسها استمرت من دون قطع الاتصال مع "قيادتها" الذي كان بدأ وإن على نحو خجول. لماذا الاشادة بفضل الله بعد حرب عليه رغم أنه مؤسّس الفكر الاسلامي – الشيعي الحركي الذي كان الرحم الذي ولد منه "الحزب"؟
يعتقد المحللون أنفسهم أن السبب شعور "حزب الله" وإيران بضرورة توحيد شيعة لبنان في مرحلة تقرير مصير سوريا الذي سيقرر مصير لبنان. وهو أيضاً معرفة الاثنين أن التدخل العسكري في سوريا كان مكلفاً جداً بشرياً حتى الآن. وقد تزداد كلفته لأن حربها لا تزال طويلة، ان محاولة النيل من "الحزب" في أوساط بيئته الحاضنة قد يبذلها كثيرون وأن المصلحة الشيعية تقضي باحباطها والاستعداد لـ"المستقبل" السوري اللبناني.
هل "الشعوب" اللبنانية الأخرى تتحسب للمستقبل الذي يتحسب له "حزب الله" وإيران؟