تمهيد: كلما حصلت عملية إرهابية في بلاد المسلمين أو في بلاد الغرب، ونفّذها مسلمون، يُطرح التساؤل البدني: هل هذا هو الإسلام؟ هل هذا دين الرحمة أم دين السيف؟ هل هذا دين العدل أم دين البغي والعدوان؟ فيتطوع أتباع الديانة المعتدلون لتبرئة الإسلام من هكذا موبقات، ويندفع الإسلاميون المتطرفون في غيّهم وجهلهم، فيُبررون ويعيدون الأمور الحادثة إلى أصولٍ تجاوزتها الأجيال وطوتها أحداث السنين الطوال، ويلهجون بشرع الله وسُنّة نبيه في مقاتلة الكفار وقطع دابرهم، واجتثاث شافتهم.
أولاً: الأشكالية المعرفية..
الاشكالية المعرفية (أو الابستيمية) بلغة الفرنجة، أنّك لا تملك أن تُبرئ أو تدين، فضلاً عن أنّ كثيرين يُبرّؤن ويدينون في نفس الوقت، كما أنّ الإدانة لن تثني الإرهابين عن مخازيهم، والتبرئة لا تفيد أو تُعزّي الضحايا، ولعلّ ما يفيد الجميع هو التذكير بأنّ الإسلام المعنى بإسلام المسلمين الأوائل، لا يمُتُّ بصلة إلى الإسلام المعاصر، وهذا بعيد عن الإدانة أو التنزيه، ذلك أنّ المسلم المعاصر قد يعتبر نفسه مسلماً رغم خرقه أو تخلّيه عن عناصر رئيسية من "السُّنة" ، الأمر الذي لم يكن يصحّ إطلاقاً بالنسبة للمسلمين الأوائل، فالمسلم المعاصر يستطيع أن يلبس "سروالا بدون إزار" ويظل مع ذلك مسلماً، لكن المرء لم يكن يستطيع ذلك إبانّ نشأة الجماعة الإسلامية الأولى( بل وذلك معمول به لمدة طويلة) إلاّ تحت طائلة اعتباره من "أهل الكتاب"، ومن هنا امتنع أنصار حزب الله عن ارتداء ربطة العنق( فهي لباس الكفار، مع صرف النظر عن السروال). كما أنّ مسلم اليوم يستطيع أن يُطوّل شاربه وأن يظلّ مسلماً. لكنّه لو فعل ذلك في أيام الصحابة لكان متشبّهاً باليهود والنصارى، ويكون قد خرج من الجماعة عملاً بالحديث "من لم يأخذ شاربه فليس منّا" (الترمذي، سُنن...١٨٦/٤ ).وقد لا يجد المسلم الشيعي المعاصر غضاضة في لعب الورق أو طاولة الزهر والشطرنج، ( ويُعزى للسيد محمد حسين فضل الله تساهلاً في ذلك، في حين أنّ حديثاً يُنمى للأمام جعفر الصادق: "وأما الشطرنج فإنّ اتخاذها كفر واللعب بها شرك وتعليمها كبيرة موبقة والسلام على اللاهي بها معصية ومقلّبها كمُقلّب لحم الخنزير (ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه، ٢٤/٤) ، والنرد "أشدُّ من الشطرنج (صحيح مسلم) .." من لعب بالنردشير فكأنّه صبغ يديه في لحم الخنزير ودمه.
الانحرافات العقيدية التاريخية..
لم تنقض عقود قليلة على وفاة الرسول حتى خرج من صفوف الفقهاء من يعترف بأنّ الأهواء والبدع والبواعث كانت تدفع المحدّثين إلى ابتداع أحاديث تُنسب للنبي تبريراً لسلوك أو تعزيزا لمأرب، فيعترف أحدهم بعدما صار من الخوارج ثم تاب "كُنّا إذا هوينا امراً صيّرناه حديثاً"، مما طرح مسألة وجيهة ما زالت قائمة حتى اليوم، كيف يمكن معرفة الأحاديث الصحيحة من غير الصحيحة؟ وتصدّى الكليني في كتابه( الأصول من الكافي) فاعتبر أنّ رسول الله كان قد نهى عن "أشياء ليس نهي حرام بل إعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس أمر فرض ولا واجب، بل أمر رجحان وفضل في الدين" ، فاضاف مشكلة إلى مشكلة: كيف يمكن التمييز بين النهي بما هو تحريم والنهي بما هو إعافة وكراهة،، وكيف يمكن التمييز بين الفرض الواجب وبين الفضل والرجحان؟.وكان  ابن قتيبة (السني) قد سبق الكليني في معالجة هذه المسائل، فامام وطأة شيوخ المعتزلة الذين غمزوا من اختلافات الفقهاء حول ما هو واجب وما هو غير واجب من أحكام السّنة فقال: "إنّ السنن عندنا ثلاث: سُنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن الله تعالى... والسنة الثانية سُنة أباح له أن يسنّها وأمره باستعمال رأيه فيها، فله أن يترخص فيها لمن يشاء على حساب العلة والعطر... وسُنة ثالثة ما سنّه لنا تأديباً، فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك، وإن نحن تركناه فلا جناح علينا، 
وتضاعفت المشاكل، حتى بلغت مداها بعد ذلك، فقد يظن المرء أنّ الختان واجب، ونحن منهم، فهو سُنة واجبة عند الكليني(الشيعي) أو مما أتى به جبريل عند ابن قتيبة (السني)، لكن التدقيق قد يقود إلى خلاف ذلك، فمسلم بن الحجاج يعتبر في صحيحه أنّ الختان ليس إلاّ من الفطرة، أي شأنه كشأن تقليم الأظافر وقصّ الشارب ونتف الإبط أو حلق العانة، فهو ليس سُنة واجبة، في رأيه، . لذا يُعلّق النووي في شرحه لصحيح مسلم: "والصحيح في مذهبنا الذي عليه جمهور أصحابنا أنّ الختان جائز في حال الصغر، ليس بواجب" (مسلم ،صحيح.. ١٤٨/٣ )، هذا في حين أنّ الممارسة الإسلامية الشائعة في أوساط المسلمين هي الختان كسُنّة واجبة، ليقع النزاع بعد ذلك حول ختان الإناث. فالشافعي يعتبر أنّ الختان" واجب على الرجال والنساء جميعاً" بينما يذهب ابن حنبل إلى أنّ" الختان سنّة للرجال ، مكرمة للنساء" (مسند...٧٥/٥).
ينقل وضاح شرارة عن طلبة العلم في النجف في النصف الأول من القرن العشرين أنّ لبس "الصباط" يقرب من الكبائر، كذلك الأكل على المائدة، أمّا استعمال الشوكة والسكين في  تناول الطعام فهو كبيرة الكبائر، فإذا كان من يلبس سروالا دون إزار، أو ترك شاربيه ، أو استعمل الشوكة والسكين في طعامه، يخرج من ملة المسلمين، فما بالك بمن يقود شاحنة تدهس كل ما يتحرك في شارع مكتظ بالناس الغافلين، أو من يدخل حفل زفاف ليفجر نفسه، هل يبقى في عداد المسلمين، بعيدا عن الإدانة والتبرئة، إنّها انحرافات التاريخ التي لا رادّ لها، وهي الانحرافات التي تلاحقنا وتصب لعناتها على أجسادنا وارواحنا، وتعيش بين جوانحنا هانئة مطمئنة.