الولايات المتحدة لم تُفاجأ بالمواقف المُتّهمة لها مباشرة ومُداورة، والتهديدات التي صدرت عن رئيس جمهوريّة تركيا رجب طيب اردوغان وكبار مسؤوليه بعد المحاولة الإنقلابيّة الفاشلة التي قام بها بعض الجيش والشرطة. فهي اعتادت عليها ولا سيّما بعد بدء "الربيع السوري" والاختلاف الشديد أحياناً في النظرة إليه وفي التعاطي معه بين واشنطن وأنقرة. هذا ما يقوله الخبراء والمُتابعون الأميركيّون أنفسهم لسياسات بلادهم في المنطقة. ويعود عدم التفاجؤ في رأيهم إلى أن الأتراك شعب "غريب" (Strange) بمعنى ما. فهم لا يحبّون أحداً ومشاعرهم سلبيّة تجاه شعوب ودول ويكرهون الغرب واليونانيّين والروس وربّما المسيحيّين وينظرون من "فوق" إلى العرب. واجتماع اردوغان وبوتين في روسيا أخيراً هو في الحقيقة اجتماع بين "ديكتاتورَيْن". فالأوّل يَئِسَ من عدم قبول الاتحاد الأوروبي بلاده عضواً فيه وخصوصاً بعد ردّه الداخلي على محاولة الإنقلاب، ولذلك أسقط عمليّاً هذا الهدف من برنامجه، لكنّه مُصمّم على تأسيس ديكتاتوريّة. وهو يسعى جاهداً للحصول على دعم لذلك من جاره في الشمال. طبعاً لن يتّخذ اردوغان قراراً بالإنسحاب من "حلف شمال الأطلسي". وهو يشعر بالأمان الآن بعد حل مشكلته مع إسرائيل باتّفاق رسمي صادق عليه مجلس النواب من شأنه عودة التطبيع بعد انقطاع. كما يشعر بالقدرة على مُتابعة مسيرته نحو الديكتاتوريّة. أمّا نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي سيزور أنقرة، كما يقول الخبراء والمُتابعون أنفسهم، فسيُركّز على الحصول على المُعطيات والمعلومات اللازمة عمّا حصل في تركيا أخيراً لوضع تقويمه الشخصي لأوضاعها الحاليّة. كما أنّه سيحذّر من استمرار استعمال الإعلام المحلّي التركي للإيحاء بتورّط الولايات المتحدة في المحاولة الفاشلة للإنقلاب العسكري، باعتباره غير مُفيد وغير مُنتج.
هل ستُساعد هذه الزيارة في إزالة التوتّر البارد في العلاقة بين أنقرة وواشنطن؟
المواقف الإعلاميّة للمسؤولين الأتراك الكبار عادت تؤكّد علاقة التحالف الإستراتيجي بين بلادهم وأميركا واستراتيجيّة عضويّتها في حلف شمال الأطلسي. لكن ذلك لم يمنعهم من الإصرار على تسليم إدارة أوباما الداعية الإسلامي عبدالله غولن إلى القضاء التركي باعتباره مدبّراً للإنقلاب الفاشل. وعدم الإستجابة لهذا الإصرار سيبقي التوتّر في العلاقات سائداً بين الدولتين رغم حرص تركيا على تلافي خطوات دراماتيكيّة تؤذيها أكثر ممّا تؤذي أميركا.
في أي حال، يلفت الخبراء والمُتابعون الأميركيّون أنفسهم إلى أن مواقف اردوغان لا تعكس "الديموقراطيّة" التركيّة وعلمانيّتها وإن بنكهتها الإسلامية الأخيرة، ولا تعكس معرفة يفترض أنها عنده بأميركا ونظامها وطريقة سير الأمور فيها. فهو قال قبل أيّام إنه طلب من واشنطن منذ سنة تسليمه غولن من دون أن يقدّم لها ملفّاً قضائيّاً فيه أدلّة ملموسة على تورّطه في إقامة كيان موازٍ داخل الدولة في بلاده هدفه السيطرة عليها وضرب الحزب الحاكم فيها. وتكراره ذلك اليوم يؤكّد عدم إيمانه بالآليّة الديموقراطيّة. علماً أنه سيحاول استخدام الحملات الإعلاميّة وعودة التعاون بينه وبين موسكو وإسرائيل لدفع واشنطن إلى تسليمه غولن بعدما أرسل إليها ملف استرداد قانوني في حقّه. فهل تُقدم على ذلك؟ والجواب هو كلّا طبعاً إذا كان خالياً من أدلة دامغة على تورّطه بالإنقلاب الفاشل. علماً أن على المرء أن يكون حذراً في الجزم في أمور كهذه حيث الأولويّة للمصالح. وتسليم الراحل حافظ الأسد قبل سنوات عبدالله أوج الان إلى تركيا بعد رعايته وحمايته واستخدامه مدّة طويلة دليل على ذلك. علماً أنه ونظامه ليسا ديموقراطيّين وأن بلاده تنتمي إلى العالم الثالث. وأميركا ليست كذلك أبداً. ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن تفكير إيران الإسلاميّة مُشابه لتفكير تركيا. فقيادتها العليا غضبت يوم أصدرت المحكمة العليا الأميركيّة حكماً أو وافقت على حكم محكمة أدنى مرتبة يقضي بدفع تعويضات للرهائن الذين حجزهم أكثر من سنة الثوّار الإيرانيّون بعد قليل من انتصار ثورتهم الإسلاميّة. وقالت إن على أوباما أن يرفض ذلك، جاهلة أو مُتجاهلة أن ديموقراطيّة أميركا لا تسمح لها بذلك جرّاء فصل السلطات.
هل يمكن استعادة القواعد الأساسيّة أو بالأحرى المواقف التي اتّخذها أوباما منذ وصوله إلى البيت الأبيض ومحاولة معرفة ما طُبّق منها وما لم يُطبّق؟ ولماذا؟