أخطر ما في الحملة الجوية والصاروخية الروسية العنيفة على مناطق سيطرة المعارضة السورية انها تكاد تكون خارج أي سياق سياسي. يجوز فيها التحليل النفسي اكثر من التحليل العسكري. لانها أشبه بإستعراض للقوة والهيبة والاسلحة، أكثر من كونها مسعى لتعديل موازين القوى، او حتى الرد على الهزائم البرية الاخيرة التي مني بها النظام السوري وحلفاؤه في معارك حلب.
هي بلا شك محاولة لرفع معنويات قوات النظام والمليشيات الحليفة له التي يبدو الان انها كانت بالفعل على شفير الانهيار، قبل بدء الحملة الروسية الحالية، وكادت تخلي مواقعها الامامية على مختلف جبهات حلب، لتنفتح المدينة كلها امام المعارضين السوريين المتأهبين والمؤهلين عسكريا لفرض مثل هذا التحول في مسار الصراع في سوريا، عندما تحين الفرصة لذلك، او عندما يغيب الطيران الروسي من الاجواء وتصمت الصواريخ والبراميل المتفجرة.
روسيا منعت، حتى الان على الاقل، إختراق العاصمة السورية الثانية من قبل المعارضة، وعززت الخطوط الحمراء المرسومة حول المدينة بوصفها مختبراً لجميع القوى المشاركة او المساهمة في الحرب السورية، ومعبراً إلزامياً للتسوية السياسية. هذا هو الظاهر من الحملة الروسية الراهنة التي لم يسبق لها مثيل، لا في تاريخ التدخل العسكري الروسي، ولا ربما في تاريخ الحملات العسكرية الاجنبية التي تعرضت لها مختلف بلدان المشرق العربي طوال قرن مضى. ولعل بامكان الروس اعلان تفوقهم على الاميركيين الذين غزوا العراق واحتلوه بغارات جوية وصاروخية أقل ربما مما تتعرض له حلب وبقية المدن السورية.
التدقيق في تلك الحملة الراهنة، يطرح اسئلة بديهية، لا يبدو انها مطروحة على القيادة الروسية التي تتمتع بما يشبه الغطاء العربي والدولي الكامل لتدمير سوريا وإبادة سكانها، الخارجين طبعا عن سيطرة النظام، من دون ان يجروء او يفكر أي نظام عربي حليف للمعارضة السورية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع روسيا او خفضها او حتى سحب السفراء او ربما تعليق حركة الملاحة او التجارة مع الروس.. على الاقل بعدما فتحت لهم إيران قواعدها الجوية لتسهيل غاراتهم على سوريا، وهي حجة لا يمكن الا ان تكون قوية ومؤثرة على المستوى الرسمي والشعبي العربي.
السيناريو الشيشاني المفضل والمعتمد من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يصلح للاستدلال، في الحالة السورية، الا من زاوية تصفية الوجود المدني في المناطق المستهدفة التي يجري تحويلها الى ارض محروقة غير صالحة للعيش.عدا ذلك، فان ما ستنتجه تلك الارض التي تجري إبادة سكانها وحرثها بالصواريخ، لن يكون شبيهاً بما انتجته الارض الشيشانية المعزولة والمنقطعة عن العالم التي أذعنت للهيمنة الروسية. ومعركة حلب الاخيرة أكبر نموذج. فالغلبة على البر كانت وستبقى (وستزيد) لمصلحة للمعارضة، وبنسبة تفوق الضعف، حسب تقديرات جميع الخبراء العسكريين وبينهم الروس، الذين يعترفون انه ليس لدى النظام وحلفاؤه قوات برية كافية على إقتحام المناطق التي يحرقها الطيران الروسي وفرض السيطرة عليها.
كما ان الغطاء العربي والدولي الذي يعتمد عليه الروس حاليا، لا يوازي الغطاء الذي تمتع بهم الاميركيون في غزوهم وتدميرهم العراق، وهو لم يتح لهم فرصة البقاء فيه، برغم التوسلات العراقية، من قبل جميع الاطراف والطوائف من دون استثناء.. "داعش" ليس ذريعة كافية للتورط العسكري، لا في العراق ولا في سوريا، بل ربما كان ولا يزال يمثل وسيلة للابتزاز المتبادل بين الروس والاميركيين.
لعل الروس يفترضون ان حملتهم العسكرية على سوريا يمكن ان تحمي النظام، او تؤجل انهياره، كما يمكن ان تقنع المعارضة بالاستسلام او العودة صاغرة الى طاولة المفاوضات. وهذا وهمٌ مزدوج لا يتطلب التأكد منه الكثير من المعلومات.. ولا يبقي سوى إحتمال وحيد هو أن ثمة عقلاً مريضاً يقود السياسة الروسية، يشبه عقل  الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الابن، تستهويه لعبة الحرب ومشاهدة الغارات الجوية والصاروخية، يمارسها مثلما يمارس طفل إحدى ألعاب الفيديو.