عدم الاتّفاق على رئيس الحكومة الجديدة سيستمر ما استمرّ الشغور في رئاسة الجمهوريّة. ومن هنا السلّة القديمة التي طرحها أمين عام "حزب الله" منذ أشهر والتي تضمّنت اتّفاقاً على ثلاثة موضوعات هي شخص رئيس الجمهوريّة الجديد، والشخص الذي سيكلّفه تأليف الحكومة الأولى في عهده، وقانون الانتخاب الذي سيجري على أساسه انتخاب مجلس نواب جديد يخلف المجلس المُمدّدة ولايته. ويبدو أن سماحة "السيد" أعاد وإن جزئيّاً إحياء السلّة في خطابه الأخير عندما فتح الباب أمام البحث في الشخصيّة التي ستتولّى رئاسة الحكومة. وأتى ذلك بعد فشل "ثلاثيّة الحوار" الأخيرة في التوصّل إلى تسويات لقانون الإنتخاب ولانتخاب رئيس جديد ولمشكلة الإصلاحات التي تضمّنها "اتفاق الطائف" لكنّها بقيت من دون تنفيذ لأن سوريا الأسد المكلّفة ذلك إقليميّاً ودوليّاً منذ عام 1989 لم تجد مصلحة لها فيه، ولأن حسابات زعماء "شعوب" لبنان كانت مختلفة بفئويّتها. وهي لا تزال مختلفة حتى اليوم.
هل الإحياء الجزئي لسلّة السيد نصرالله سيؤدّي إلى تفاهم على رئيس حكومة الرئيس الجديد للبلاد الذي لا يزال في عالم المجهول؟
لا يمكن الجواب بنعم أو بلا عن ذلك. لكن يمكن الإشارة إلى العوامل التي تجعل هذا الأخير ممكناً أو لا. أوّلها الاتّفاق على رئيس جمهوريّة وانتخابه. وهذا أمر متعسّر. وثانياً ربط "حزب الله" بل "الثنائيّة الشيعيّة" القائدة لشعبها الموافقة على رئيس الحكومة بموافقة على رئيس الجمهوريّة الذي تريد. وثالثاً إصرار "تيار المستقبل" رسميّاً، رغم التنافس داخله على الوصول إلى السرايا الحكوميّة، على أن يكون زعيمه الرئيس الأسبق للحكومة سعد الحريري رئيساً لحكومة العهد الجديد الغائب حتى الآن. تمسَّك "الشعب السنّي" على وجه الإجمال به لهذا الموقع المهمّ لأن شعبيّته داخل طائفته لا تزال الأكبر رغم ضمورها بعد استشهاد المؤسّس رفيق الحريري، وسوء أداء وارثه وخلفه، وعدم تعاطي حلفائه الإقليميّين باحتراف مع الوضع في لبنان والجهات الإقليميّة المؤثّرة فيه، ثم فقدان أهم هؤلاء الاهتمام بلبنان وبه، وتخلّيه عن حصرية الزعامة السنّية في واحد، وإصراره على أن يخوض هذا الشعب معاركه الإقليميّة داخل بلاده بالسياسة وبغيرها إذا اقتضى الأمر. ورابعاً إصرار "حزب الله"، من زمان على عدم تسهيل أمور الزعامة السنّية القويّة، وعلى التعامل مع السياسيّين السنّة الذين يحتاجون إليه في استمرار للبقاء على الساحة السياسيّة، وإذا تعذّر ذلك على خلق زعامات سنّية تمتلك شعارات ومواقف موالية لكنها لا تمتلك جمهوراً. وهذه سياسة استعملتها سوريا الأسد على نحو شبه دائم، كما استعملها الفلسطينيّون قبلهم الذين "فرّخوا" تنظيمات "وطنيّة" و"قوميّة" كثيرة لم تعش طويلاً بعد خسارتهم لبنان. وخامساً أدرك "الحزب" أن تطوّرات الحرب في سوريا، ودخول السعوديّة الحرب مباشرة وبالواسطة ضد إيران الإسلاميّة وحلفائها، وتحوّل الصراع العسكري مذهبيّاً، أدرك أن عليه الاعتماد على زعيم سنّي ذي قاعدة شعبيّة تتقلّص في استمرار وإمكانات ماليّة ضعيفة ودعم إقليمي منحدر، ولكن من دون ان يتخلّى عن أهدافه اللبنانيّة والسوريّة والإيرانيّة والإيديولوجيّة. والوحيد الذي تنطبق عليه المواصفات هذه هو الرئيس الحريري. ويبدو أنه، وبسبب إدراكه لأوضاعه التي ينخرها الوهن، صار جاهزاً لتسوية مع "الحزب" تُعيد إليه رئاسة الحكومة وإن مع تنازلات جسيمة من قبله، لأن هدفه الآن هو "تجليس" وضعه مع حلفائه الإقليميّين وترتيب أوضاعه المادية واستعادة الزعامة وإن تحت مظلّة السيد نصرالله المحسوسة وغير المرئية في آن. وسادساً وأخيراً أن كل العوامل المفصّلة أعلاه تؤشّر إلى أن التفاهم بين الحريري و"حزب الله" ليس سهلاً على الإطلاق في ظل استمرار غياب تفاهم أطراف الصراع الإقليمي المذهبي والقومي على تهدئة البلاد من دون إعطاء انطباع بتغلّب السنّي على الشيعي أو الشيعي على السنّي. أما المسيحي فلا أحد يفكّر فيه إلّا كـ"سنّيد" لأي من الإثنين تماماً كممثّلي الدرجة الثانية الذين يُختارون ليعزّزوا دور الأبطال في الأفلام. فهل يستطيع الحريري دفع الثمن الذي حدّده "الحزب" أو سيحدّده محليّاً (رئاسة جمهوريّة، استمرار مقاومة وسلاح، استمرار التدخّل في سوريا، إدارة الوضع اللبناني على نحو يخدم مشروعه الوطني الأساسي فالإسلامي الأكثر أساسيّة)؟
ماذا عن النسبيّة التي صارت موضع تداول يومي بين "العامّة" والنُخب وزعماء "الشعوب" اللبنانيّة رغم استمرار عدم وضوحها عند كثيرين؟