كتب برهان غليون في جريدة "العربي الجديد" مقالة طويلة بعنوان، "سوريا في قلب الحرب الحضارية... الخفية". استعرض في المقطع الأول الظروف التاريخية التي تسببت بانفجار الأحداث، وفي المقطعين الآخرين الوقائع الميدانية والسياسية والتدخلات الدولية ومآلات الحرب في سوريا.

سأحصر المساجلة مع المقالة في مقطعها الأول، الذي يلخص الخلفية الفكرية والأساس النظري اللذين أظن أنهما يفسران فشل الثورة في تحقيق أهدافها، لا في سوريا وحدها بل في سائر بلدان الربيع العربي.

يرى الكاتب أن "ما يجري في المشرق العربي...يشكل حدثاً غير مسبوق في تاريخ العالم الحديث". وهذا صحيح مئة بالمئة، لكنه صحيح في العالم العربي وحده وليس في كل العالم، لأن العالم الحديث تجاوز هذه المأساة بعد أن شهد أحداثاً مماثلة قبلاً في أميركا اللاتينية وفي أوروبا الشرقية وفي أفريقيا.  وظل العالم العربي وحيداً في آخر قائمة البلدان التي أطلقت ثوراتها الديمقراطية، بعد أن ظل الكلام عنها مقتصراً على مبادرات فردية قد يكون برهان غليون من روادها الأوائل، وهو الذي خصص لهذا الموضوع كتاباً عنوانه، بيان من أجل الديمقراطية، نشره قبل عقود على اندلاع الثورة، ليقينه بأن الثورة الديمقراطية هي مفتاح الثورات الأخرى.

ويرى الكاتب أن الغرب يخوض مواجهة تاريخية، منذ قرون، مع عالم المتوسط المشرقي، وأن أوروبا "عاشت قرونا طويلة تحت الهيمنة الفكرية والسياسية والعسكرية لأمبراطوريات الشرق" وأن أوروبا الحديثة ولدت في قلب  الصراع "ضد المدنية الاسلامية" التي كانت تمثلها السلطنة العثمانية. وقائع صحيحة وتحليل غير مطابق، أقله في ما يخص أمرين اثنين، الأول هو أن بلاد الحضارات الدينية، في أوروبا وآسيا، كانت خاضعة لنمط واحد من الانتاج المادي والثقافي عرف بحضارة العصر الاقطاعي، وكانت أوروبا سباقة في الخروج منه إلى نمط جديد يتحاشى برهان غليون تسميته باسمه الحقيقي، أي الحضارة الرأسمالية. والثاني هو أن الحداثة الأوروبية ولدت بمخاض كبير وصراع داخل القارة، لا خارجها، بين قوى الاستبداد والمحافظة متمثلة بالكنيسة والأنظمة الملكية، من جهة، ومن جهة أخرى، القوى الصاعدة متمثلة بالبرجوازيات الناشئة وبنهضة العلوم الوضعية، التي تعرضت لهجوم محموم شنه الفكر الديني عليها وشكلت قضية غاليليه ودوران الأرض حول الشمس مأساته النظرية، فيما تمثلت مأساته العملية بحروب دينية دامية بين كنيسة روما وحركة الاصلاح ، ولم تنته بالحربين العالميتين. أما حروب أوروبا الخارجية فقد كانت حاجة لتطور الرأسمالية الأفقي.

ويرى الكاتب أن الدراسات والأبحاث النظرية الغربية "تريد إقناع العرب والمسلمين بتناقض فكرة الدولة المركزية مع التقاليد والثقافة والبنية الاجتماعية العربية والهوية الاسلامية"، ويعرف غليون أكثر من سواه، ومؤلفاته الكثيرة تشهد على ذلك، ومنها "اغتيال العقل" و"المأساة العربية: الدولة ضد الأمة"، يعرف أن الدولة الحديثة، الدولة الأمة، هي من تجليات الحضارة الحديثة التي قامت في الغرب، وفي أوروبا على وجه التحديد، وأن قيامها لم يكن نزهة مريحة بل نتيجة قرون من التطور الثقافي والاقتصادي توجته الثورة الفرنسية بإنجازها السياسي وقيام الجمهورية. وهذا بالضبط ما هو موضوع على جدول عمل التاريخ الحديث اليوم في سوريا وسائر بلدان الربيع العربي.

الخلفية الفكرية في مقالة غليون تحمّل الغرب المسؤولية عن اندلاع أحداث الربيع العربي وعن عرقلة التوصل إلى حل وعن إدخال الأزمة السورية في تعقيداتها المعروفة. هو محق طبعاً في إشارته إلى أن للتدخل الخارجي الواسع النطاق تأثيراً كبيراً وحاسماً على مسار الأزمة السورية، بيد أنه يعرف أكثر من سواه، أن التدخل الخارجي لم يكن رغبة من قبل الخارج وحده، بل كان حاجة سورية داخلية للنظام وللمعارضة على حد سواء، وقد جهدت المعارضة، يوم كان يرئس مجلسها الوطني الأول، لكي تكسب دعماً دولياً ضرورياً لانتصار الثورة. يبدو في الظاهر أن هذه الخلفية النظرية تجد جذورها في نظرية المؤامرة، التي تبرئ العامل الداخلي ، من حيث تدري أو لا تدري، من أية مسؤولية، مع أن الكاتب يشير في نهاية مقالته إلى أن "أعمال العنف الأعمى تخفي عنا بؤس نخبنا وقياداتنا وقصور تفكيرها وافتقارها إلى رؤية متسقة... وأن النكبات المتكررة ... هي إنجازنا التاريخي الوحيد". أي أنه يحمّل العامل الداخلي قسطاً من المسؤولية.

التنازع على الأولية بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية هو موضوع قديم عمره أكثر من قرن، رجحت الحركة القومية بكل أجنحتها الدينية واليسارية غلبة الثانية على الأولى، لأن الخارج في نظرها إما استعمار أو حضارة مسيحية مادية أو رأسمالية متوحشة، ولأن الحل في نظرها هو التحرر من الاستعمار وبناء الاشتراكية أو بتطبيق الشريعة الاسلامية، وقد نجحت في تصويره عدواً وحيداً، ووظفت هذا النجاح للتمويه على أسباب التخلف الداخلية وعلى رأسها الاستبداد.

برهان غليون سباق في كشف عوراتنا الداخلية، لكن مقالته مكتوبة تحت وطأة الأزمة الراهنة واستعصاء حل الأزمة السورية على وجه التحديد، وهو من الرواد الذي استشرف أسباب الأزمة قبل سواه وربما كانت مؤلفاته، مع سواها من الكتب الجريئة، من بينها ما كتبه صادق جلال العظم في المشرق والجابري والعروي في المغرب، حافزاً مهماً على ولوج المفكرين العرب باب النقد الذاتي، الذي ربما كان ملهماً لنا في كتابة رواية أخرى عن أسباب هذا الانفجار الكبير في العالم العربي، الذي أسميناه ربيعاً، ونشرنا عنه كتاباً بعنوان "هل الربيع العربي ثورة"؟ لذلك نستأذن الدكتور برهان لنعارضه بسردية أخرى عن الظروف التاريخية لاندلاع أحداث الربيع العربي، فصلناها في كتابنا الآنف الذكر.

نعم، الحضارة الغربية وضعت العالم كله بما فيه البلدان العربية والاسلامية أمام تحدي الخروج من التخلف، الباب الوحيد المفتوح أمامها للخروج من التخلف هو الرأسمالية. وليس صحيحاً أن الرأسمالية والاستعمار هما سبب تخلف العالمين العربي والاسلامي، الذي بدأ مع انهيار الدولة العباسية في نهاية الألفية الأولى. إذن كان على بلدان العالم أن توافق بالحسنى كما اليابان، أو تذعن بالقوة كما الهند والصين وإفريقيا، لأن الحضارة الجديدة تختلف عن سائر الحضارات السابقة، فهي وحدها الحضارة الكونية، لا كما ينعت غليون الحضارات السابقة التي قصرت عن أن تكون كونية، ولأنها، كما قال ماركس شكلت ثورة تقدمية بكل معنى الكلمة على أنماط الانتاج الاقتصادي والثقافي والمعرفي والفني والسياسي السابقة عليها.

الموافقون والمذعنون دخلوا جميعاً جنة الحضارة الرأسمالية من بابها الاقتصادي ومن بابها الثقافي، ومن بين الداخلين العالمان العربي والاسلامي والبلدان الاشتراكية. غير أن الباب السياسي ظل موصداً وشكلت أنظمة الاستبداد، التي لا تعمل بموجب الدساتير بل بموجب الاحكام العرفية، سداً منيعاً في وجه الانتقال السلمي إلى الديمقراطية، على غرار ما حصل في الهند أو ماليزيا أو أميركا اللاتينية، أو الانتقال غير السلمي على غرار ما حصل في مناطق عديدة من العالم. وقد استخدم الاستبداد المحلي( العامل الداخلي) كل السبل، ومن بينها التصويب الدائم على عدو خارجي، (العدو الداخلي ليس سوى عميل للخارج)، ليحول دون الدخول في عصر التعايش بين المختلفين والاعتراف بالآخر، مصرّاً على سياسة التخوين والنفي والاغتيال والسجن.

التصويب على الخارج يغطي على العطل الداخلي ، مثل هذا النهج لا يعمل على فضح الاستبداد ولا يمكن أن يكون بديلاً ديمقراطياً. غير أن نهج الاستبداد الذي  يسد أبواب التغيير لن يكون في مقدوره ولا في مقدور حلفائه ولا خصومه في الداخل والخارج إيقاف عقارب الزمن. الديمقراطية أكثر كلفة مما تصوره الثوار.