لم تكن ثلاثية الحوار الوطني في عين التينة دليلاً على فراغ السلطة او فسادها او نزاعاتها التي لا تنتهي، وهو في الاصل ما يعترف به أهلها من دون مواربة. قدمت الايام الثلاثة الماضية برهاناً جديداً على ان المتحاورين ليسوا بحاجة ماسة الى تكوين سلطة، تتعارض بالمبدأ مع مصالحهم ، وتتنافى مع رغبة الجمهور في إنهاء ذلك الفراغ بأي شكل من الاشكال.
ما كان مطلوباً او منشوداً من هيئة الحوار الوطني خيالي، يفوق التصور عن هوية أعضائها وثقافتهم وقراءتهم للمعضلة الراهنة. الهيئة هي بالفعل مجلس تأسيسي لا ينقصه سوى الاسم. جدول اعمالها لا يغفل عنواناً من العناوين الرئيسية لإقامة الدولة وتنظيم عمل مؤسساتها. وكذا الامر بالنسبة الى التمثيل الطائفي الدقيق للأحجام والأوزان والقوى داخل كل طائفة.. لكن التواضع وحده ، وربما بعض الحرج، هو ما يحول دون تبني ذلك التوصيف، مع ان الفترة القريبة المقبلة كفيلة بتبديد ذلك الإلتباس.
مع أن المتحاورين هم الأقوى والأدق تمثيلاً، فان الهيئة لم تنجح، ولن تنجح في أي من مهماتها.  كانت جلسات الايام الثلاثة الماضية أشبه بجلسات"عصف فكري"حول قضايا وطنية كبرى، أكثر من كونها حواراً سياسياً يهدف الى بلوغ تسويات او مخارج من مآزق محددة. ولانها المرة الاولى في تاريخ لبنان الحديث التي لا ينسب فيها مثل هذا المأزق المتكرر الى الخارج والى دوله وأجهزته التي لطالما كانت متهمة  بالتآمر على البلد . فإن عدم اللجوء الى السلاح او الى الشارع ليس  إنجازاً يحسب لاي من المتحاورين المتخاصمين . ثمة تسليم عام بان جبهات المواجهة اللبنانية على اختلافها ، لم تعد توازي بأهميتها خط تماس واحد في مدينة حلب السورية.
إحالة الفراغ اللبناني الى الازمة السورية لم تعد موفقة او حتى مقنعة. لعلها كانت واردة في الايام والاسابيع الاولى من تلك الازمة، عندما كان إرسال بضعة مقاتلين لبنانيين او بضع بنادق لبنانية المصدر يمكن ان تخل بموازين القوى على جبهات القتال السورية، التي باتت تبتلع اليوم جيوشاً وميليشيات من مختلف انحاء العالم ، يضيع بينها الجيش المصغر الذي يمثله حزب الله المنتشر على اكثر من جبهة في سوريا.
اليوم يمكن الجزم بأنه ليس هناك من بين المتحاورين من يدرك فعلا ما يجري في سوريا والى أين وصل الصراع على أرضها وما هو مصير ذلك البلد الشقيق. وهي بالمناسبة مهمة عسيرة حتى على غير المسؤولين اللبنانيين. حول طاولة الحوار، كان هناك واثقون بالنصر، لكن ثقتهم تداري خوفهم من الهزيمة. وكان هناك مقتنعون بان الحل سيكون في البلدين معا او لا يكون ، لكنهم لا يستطيعون تقديم دليل واحد على ذلك، او شبه واحد بين الازمتين وعناصرهما المركبة. ثمة تقديرات او بالاحرى مخاوف لبنانية دائمة من تقسيم سوريا، وبالضرورة لبنان تالياً، لكنها لا تأخذ بالاعتبار ان معركة دمشق وحدها دون سواها هي التي ستحسم الحرب وهي التي ستحدد شكل الدولة السورية ونسبة الفدرالية في نظامها السياسي المقبل. معركة حلب  الحالية ليست اكثر من معركة تبادل مواقع وشروط لمفاوضات لم تنضج بعد.
لا أحد من المتحاورين ينتظر تلك المعركة، ولا أحد يبني حساباته السياسية الراهنة على ذلك الانتظار الذي قد يكون مديداً .. الفراغ اللبناني هو الاصل وهو المكون الاول، وكل ما عداه تفاصيل لا تستقيم قراءتها من جلسات حوار وطني مراوغ،مخادع، ينكر طابعه التأسيسي، وينفي قدرته على انتاج محاورين أفضل او أكفأ او أذكى في سباقهم الخفي مع الفدرالية السورية.