صداقتي ورئيس مجلس النواب نبيه برّي قديمة. فهي بدأت بعد تسلّمه رئاسة "حركة أمل" بوقت قصير. واستمرّت منذ تسلّم أوّل منصب سياسي في الدولة وهو الوزارة، ثمّ منذ دخل مجلس النواب بالانتخاب وليس بالتعيين. وازدادت رسوخاً بعد تولّيه رئاسته المستمرّة. خلال هذه الصداقة وقف إلى جانبي في مشكلتين واحدة مهنيّة وأخرى سياسيّة، وقدّم لي خدمة خاصّة لن أنساها أبداً ولم يطلب مقابلاً في "الموقف هذا النهار". أمّا أنا فاستعملت موضوعيّتي واستقلاليّتي اللّتين لم تتسبّبا لي بمشكلات معه. فأنا لم أدخل معركة معه خدمة لأخصامه. ولم أشترك في حملة دعائيّة له كما لم يطلبها. لكن القارئ النّبيه كان يُلاحظ ودّي له بين السطور سواء عند إنصافه سياسيّاً أو عند انتقاده. ما يعجبني في نبيه برّي هو أنّه جمع في شخصيّته لبنان ما قبل الحرب، ولبنان الحرب التي كان أحد أبطالها أي لبنان الميليشيات، ولبنان الطبقة السياسيّة التي أفرزتها تلك الحرب والتي صارت لاحقاً واحداً مع الطبقة السياسيّة القديمة من خلال الورثة وما أكثرهم، ولبنان الطائفي والمذهبي. وما يعجبني فيه أيضاً أنّ هذه الانتماءات المتنوّعة لم تُصبه بانفصامات قاتلة في شخصيّته، بل تكاملت ووفّرت له نُضجاً وعقلاً تسوويّاً ومرونة مطلوبة وطنيّاً وقدرة على تدوير الزوايا، وإصراراً على محاولة حل الأزمات والمشكلات بالحوار بين قادة "شعوب" لبنان رغم معرفته الأكيدة بخلفيّاتها الإقليمية وتعقيداتها الدوليّة. علماً أنّها عطّلت الحوارات غالباً إذا لم تجد لها مصلحة فيها معتمدة في ذلك على تمسّك الطبقة السياسيّة الموسّعة بمصالحها أكثر من مراعاتها لمصلحة الوطن.
لماذا هذا الكلام الآن؟
ليس لتبرير انتقاد أو أكثر سيقرأه في "الموقف" اليوم. فأنا أعرف دوافعه العامّة وهو يعرف حرصي على نجاحه كصديق وكمسؤول في تجنيب لبنان فراغاً شاملاً، وفي تلافي عودته ساحة مباشرة للحرب الأهليّة وللحروب بالوكالة عن الخارج الإقليمي المتنوّع، فضلاً عن الدولي. وذلك هو الهدف الأوّل أو ربّما الوحيد لاجتماعات هيئة الحوار الوطني التي بدأت أمس بدعوة منه ويفترض أن تنتهي غداً، إلّا إذا نجح المتحاورون في إحداث خرق يبرّر التمديد أو أكثر.
ما هي الانتقادات – التساؤلات؟
يمكن تلخيصها في هذه العجالة باثنين باعتبار أن الأخرى يمكن أن تنتظر.
الأوّل هو أن هيئة الحوار صارت منذ الشغور في رئاسة الدولة قبل سنتين وشهرين، ومنذ عجز الحكومة إلا عن تصريف الأعمال وفي أضيق الحدود رغم عدم استقالتها، ومنذ شلل مجلس النواب وتوقّف هيئته العامة ولجانه عن الاجتماع، صارت الجسم غير الرسمي وغير الدستوري الذي يتمّ اللجوء إليه لحل كل أزمة أو مشكلة للبلاد مصلحة كبرى في إنهائها. فإذا وجده تقرُّه الحكومة ولاحقاً المجلس. وهذا الجسم يمثّل قادة الطوائف والمذاهب والأحزاب الأقوياء والضعفاء في آن. وهذا يعني أنه صار هيئة تأسيسيّة أو هيئة مُمهّدة لها. ولا يفيد في نفي ذلك التأكيد على مرجعيّة الطائف وفي الوقت نفسه على أنّه ليس "مُقدّساً". ولا يعني ذلك أنّني أتّهم الرئيس برّي بتنفيذ سياسة متّفق عليها مع جهات أخرى لتعبيد الطريق أمام الهيئة التأسيسيّة. فهمّه تلافي الأسوأ. وربّما يكون همّ الآخرين كلّهم بلوغ الأسوأ وصولاً لتأسيس جديد.
أما الانتقاد الثاني فيتعلّق بدعوة الرئيس برّي إلى "دوحة لبنانيّة" ترمي في رأيه إلى حضّ القادة المجتمعين في هيئة الحوار على التصرّف كما فعلوا أو كما فعل معظمهم يوم اجتمعوا في "دوحة قطر" برعاية رئيسها السابق الأمير حمد بن خليفة وبمساعدة "العرب والعجم" والأميركيّين، أي إلى الاتّفاق على قانون انتخاب وعلى انتخاب رئيس جمهوريّة بعد فراغ في بعبدا استمرّ أشهراً. نظريّاً الدعوى في محلّها لكن هل في الإمكان حصول "دوحة لبنانية" في غياب أدوار "العرب والعجم" والأميركيّين وغيرهم؟ وهل يمتلك الرئيس برّي "الإمكانات" التي استعملتها قطر لإنجاح "دوحة لبنان" ومنها ما يمكن الحديث عنه ومنها ما تستحيل حتى الإشارة إليها؟
إنطلاقاً من ذلك قد يكون من الأفضل في الغياب المقصود للدور الإيجابي لـ"العرب والعجم" والأميركيّين وغيرهم إعادة الحوار إلى مجلس النواب والحياة إلى مجلس الوزراء وإلى قصر بعبدا.