أدركت روسيا أنها ارتكبت خطأ بتأجيل معركة حلب، يؤكّد القريبون جدّاً من طهران أنفسهم، وأن خطأها كان فادحاً. فهي وثقت بأميركا وتجاوبت مع طلبها فرض هدنة عسكريّة بغية الإفساح في المجال أمام تفاهمهما على خطّة مشتركة لمحاربة "داعش" عسكريّاً، ولتحديد التنظيمات الإرهابيّة التي يجب أن تشملها الحرب أيضاً، ولمتابعة البحث "السياسي" مع الأطراف المعنيّين في سوريا (نظام ومعارضة) والأطراف الإقليميّين (إيران – تركيا – السعوديّة ودول أخرى). لكنّها اقتنعت أخيراً بأنها تعرّضت لعمليّة غش وخداع أميركيّين. إذ أن تجاوبها تسبّب في حينه بخسارة الريف الشمالي لحلب وبفشل العملية العسكريّة النظاميّة السوريّة لاستعادة دير الزور والرقّة. كما اقتنعت بأن ذلك كان هدف واشنطن منذ البداية. فقرّرت العودة إلى تنفيذ خطّة حلب طبعاً بالتعاون مع طهران والأسد و"حزب الله" وبعد تقويم دقيق لما جرى في الأشهر القليلة السابقة، قد يكون رافقه بعض العتاب. وصدر القرار بعد اجتماعات عقدها الثلاثي المذكور مع موسكو ببدء العمليّة بعد تحديث خُططها. كانت الخطوة التنفيذيّة قيام الطيران الحربي الروسي بقصف ليس فقط المقاتلين المعارضين وفي مقدّمهم أعضاء "داعش" و"النصرة" وغيرهما المرابطين في قسم من حلب، بل أيضاً الذين منهم كانوا يحتشدون في إدلب وفي مناطق عدّة مجاورة استعداداً للإنضمام إلى إخوانهم في حلب بقصد إفشال الهجوم العسكري الذي رأوا بأمِّ العين أنه سيبدأ. استمر القصف نحو 20 يوماً. وبدّد ذلك زعل أو غضب الأسد وإيران و"الحزب". لكن الكلام عن هدنة 48 ساعة في "عزّ هذه الحشرة" أثار قلق هؤلاء لكنّه سرعان ما تبدّد جرّاء بدء تنفيذ الخطّة العسكريّة الموضوعة. الهدف الأول أو المبدئي كان مُحاصرة حلب وقطع طرق إمداد مقاتلي المعارضة داخل الجزء الذي يسيطرون عليه منها. أمّا الهدف الأبعد أي الذي يتجاوز حلب فلم يكن جزءاً من الخطّة على الأقل الآن. ذلك أن الإنطلاق من إستعادتها للتوجّه في اتّجاه المناطق السوريّة "المعارضة" القريبة من تركيا كان أمراً صعباً ليس من الناحية العسكريّة بل من ناحية التفاعلات التي قد يثيرها في أنقرة ودول المنطقة وحلف شمال الأطلسي، والرد الذي قد يقوم به هؤلاء والذي قد يُطيح الإنجازات المحقّقة ويأخذ الأزمة في اتّجاه جديد.
في اختصار، يقول القريبون جدّاً من طهران أنفسهم، أن خداع أميركا روسيا كما يعتقد مسؤولو الأخيرة هو الذي دفع روسيا إلى التجاوب مع المحاولات الحثيثة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحسين العلاقات بعد تردّيها في أعقاب إسقاط الجيش التركي طائرتين عسكريّتين روسيّتين اخترقتا أجواء بلاده. وما ساهم في تسريع عودة التفاهم بين أنقرة وموسكو دعم واشنطن "قوّة سوريا الديموقراطيّة" ذات الغالبيّة الكرديّة ودفعها إلى استعادة منبج من "داعش". ومن شأن ذلك وصل المناطق الكرديّة السوريّة جغرافيّاً ووضع تركيا أمام كيان كردي على حدودها مع سوريا. وهذا ما ترفضه وستبقى ترفضه طالما استمرّت قادرة على ذلك. وقد عبّرت عن ذلك بتهديدها بإدخال جيشها سوريا إذا قام الكيان الكردي السوري.
هل يمكن أن يتكرّر التباين وحتى الخلاف بين موسكو وثلاثي الأسد – إيران – "حزب الله"؟
يجيب القريبون أنفسهم بالقول أن الحاج قاسم سليماني حل التباين – الخلاف السابق بمحادثات مع مسؤولين روس في موسكو. واتُّفق على ضرورة التنسيق الميداني على مستوى عالٍ وعلى سرعة التواصل بين الثلاثي وروسيا لأن الأوضاع لا تحتمل التأخير، كما على ضرورة التفاهم على الأهداف. فعندما دخل الروس سوريا عسكريّاً كان هدفهم التوجّه إلى مناطق وجود الإرهابيّين الشيشان والداغستانيّين. وكان طلب الأسد أن يساعدوا في حماية دمشق ومحيطها وأن يركّزوا على حلب وإدلب. وعندما حرّروا تدمر من "داعش" حصدوا تقديراً عالميّاً. لكنّها لم تكن تهمّ الأسد وغيره لأنّها معزولة، ولأنّه كان يريد مكاسب جغرافيّة مهمّة تضعه على طاولة المفاوضات في جنيف وتمكّنه من تحقيق مكاسب فيها. وإيران و"الحزب" كانا مع موقفه هذا أي تأخذ حلب وتذهب إلى الطاولة. إلى ذلك كان الروس يُريدون التوجّه إلى دير الزور والرقّة لدفع "داعش" إلى الموصل. ولم تكن إيران والأسد موافقين لأن ذلك لم يكن أولويّة عندهما جرّاء الخسائر الكبيرة التي سيتسبّب بها جرّاء احتلالها وحمايتها والمحافظة عليها. لهذه الأسباب كلّها ركّز الإثنان على حلب.
طبعاً اقتنعت روسيا أخيراً فبدأت معركة حلب وتمّ حصارها. فهل يتغيّر الهدف ويصبح احتلالها والإنطلاق منها إلى منطقة أخرى؟