خلال أيلول المقبل، سيكون لبنان على موعد مع الاستجابة لاستحقاقين دوليين على صلة بملفّين مهمّين، وبينهما شيء من الترابط السياسي: الأوّل سيتمثّل بدعوة مجلس النواب إلى انتهاز آخِر مهلة زمنية منَحته إياها منظمة التعاون والأمن الأوروبي للموافقة على انضمام لبنان إلى اتّفاقية الانفتاح الضريبي. والثاني يتعلق بدعوة المصارف اللبنانية إلى إدراج أسماء جديدة لأشخاص وشركات مطلوب حظرُ التعامل معها، بدعوى أنّها تتعامل مع حزب الله، بحسب توصيف استخبارات الخزانة الأميركية لها. حتى اللحظة لا تزال بيروت تتلكّأ في استجابة طلب منظمة التعاون والأمن الاوروبي توقيع اتفاقية التعاون والانفتاح الضريبي، والتي بموجبها ستصبح كلّ المعلومات التي لدى المصارف اللبنانية عن أصحاب الإيداعات فيها متاحة لـ"مصالح الضرائب" في كلّ دول العالم الموقّعة هذه الاتفاقية للاطّلاع عليها.


معروف أنّ غاية الدول الغربية الكبرى من هذه الاتفاقية هي مطاردة مواطنيها أو حاملي جنسياتها المتهرّبين من دفع الضرائب في بلادهم، والحد من إمكانية قيامهم بتهريب أموالهم الى مصارف دول غير موقّعة الاتفاقية الدولية للانفتاح والتعاون الضريبي.

ومِن منظار منظمة الأمن والتعاون الاوروبي فإنّ لبنان يوجد حالياً على لائحتها الرمادية التي تعني أنّه غير متجاوب كلّياً مع الاتجاه الدولي لمكافحة المتهرّبين من دفع الضرائب في بلادهم، ويُعتبر أيلول الفرصة الزمنية الأخيرة للبنان لكي يتّخذ قراره تجاه طلب هذه المنظمة، وفي حال لم يوافق على الانضمام إليها فإنّها ستضعه على لائحتها السوداء، ما يرتّب عليه مصاعب جمّة على مستوى التحويلات الماليّة منه الى دول العالم، وبالعكس.

وبديهيّ القول إنّ انضمام لبنان إلى هذه الاتفاقية، يَستلزم الموافقة عليها من مجلس النواب. وهناك تكهّنات تفيد بأنّه في حال تعذّرَ على المجلس عقد جلسة لتشريع موافقته على الانضمام للاتفاقية للأسباب اللبنانية الداخلية المعروفة، فإنّه سيكون مرجّحاً «ابتداع» صيغة ملتوية لإبرامها، وذلك على رغم شوائبها القانونية، كمثال تمريرها بقرار وزراي أو بقرار لمصرف لبنان المركزي!!.

.. وبالاستناد إلى تجارب سابقة للبنان مع قانون «فاتكا» ومكافحة تبييض الأموال الذي تضمّنَ بين ثناياه المطاردة الاميركية لمصادر تمويل حزب الله في لبنان، يمكن الاستنتاج مبكراً أنّه سيتم في أيلول أو قبله، وأنّ لبنان سيقرّ انضمامه لهذه الاتفاقية لتجنّب عقوبات منظّمة التعاون والأمن والاوروبي، وبتوقيعه عليها يكون أنهى آخرَ فصول السرّية المصرفية فيه، خصوصاً بالنسبة الى الأموال التي أصحابها غير لبنانيين أو يحملون جنسية ثانية مع جنسيتهم اللبنانية؛ لأنّه مع دخول لبنان نادي موقّعي هذه الاتفاقية ستصبح كلّ إيداعات المصارف اللبنانية ذات المنشأ الخارجي مفتوحة لـ»مصالح الضرائب» في الدول الموقّعة للاطّلاع عليها.

ويسود انطباع بأنّ أيلول سيَحفل مرّةً أخرى بنوع من السخونة السياسية الداخلية، وذلك على خلفية الموقف من طريقة التعاطي مع المطالبات الغربية للبنان بالانضمام إلى مجموعة قوانين مالية عالمية جديدة، تؤدي إلى جعل القطاع المصرفي اللبناني مكشوفاً أمام رقابة دولية كاملة على مستوى ملفّين اثنين: التهرب الضريبي، ومكافحة تمويل حزب الله.

وهذا الانطباع توَلَّد نتيجة معلومات تفيد أنّ أيلول المقبل الذي سيتخلله إلحاح على لبنان للتلاؤم مع قوانين مالية دولية، ما سيَطرح مجدّداً ملف «مدى قدرة لبنان على التلاؤم كلّياً مع القوانين المالية العالمية، ولا سيّما منها الأميركية»؛ ذلك أنّ الشهر المقبل سيَشهد موعد نفاد المهلة النهائية للطلب الدولي من لبنان بالانضمام إلى الاتفاقية الدولية للتعاون والانفتاح الضريبي؛ وسيَشهد في الوقت نفسه موعد نشر الخزانة الأميركية لائحتها الجديدة بالأسماء التي تتّهمها بالتعامل المالي مع حزب الله وتطلب من المصارف اللبنانية حظرَ التعامل مع أصحابها.

وفتحُ هذين الملفّين خلال شهر واحد وفي فترة زمنية واحدة سيَمنح حزب الله فرصة لتجديد النقاش الداخلي في وضعِ سقفٍ قانوني، ليس فقط للاندفاعية الاميركية في سياسة محاصرة حزب الله مالياً في لبنان، بل ايضاً في الحفاظ على شيء من السرّية المصرفية اللبنانية. بمعنى آخَر، سيكون الحزب امام فرصة لتنفيذ نصيحة كانت وجِّهت اليه، وهي شنُّ هجوم معاكس على الحرب الاميركية المالية ضده، وذلك من بوّابة الدفاع عن كل النظام المالي اللبناني وليس عن قضية تخصّه داخله.

وبات واضحاً في خصوص هذا المشهد، انّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بذلَ أقصى جهده إزاء قوانين الكونغرس المالية ضد الحزب، حيث تمكّنَ من إرجاء البتّ بأيّ طلب اميركي لإخراج حساب أيّ مودع من المصارف اللبنانية لفترة محدّدة. وهذه مهلة تتيح مساحة للبنان للتثبت من صدقية "التهَم الاميركية" لأصحاب الحسابات المطلوب حظرُها.

ثمّة أمر آخَر حصلت عليه بيروت قبل نحو شهرين، وهو تطمينات من الكونغرس، ولو غير رسمية، مفادُها أنّه حالياً ليس في وارد إصدار قوانين ماليّة جديدة ضد الحزب، موضحاً أنّ القوانين التي أصدرَها منذ نحو عام سيَستأنف تطبيقها، وهي إجراءات تكمل مساراً أميركياً قديماً تجاه الحزب كما تؤكّد واشنطن ولا تعبّر عن تغيير في سياستها تجاه لبنان. كما أنّ إصدار الخزانة الاميركية لائحةً جديدة كلّ ثلاثة اشهر عن متعاونين ماليّاً مع الحزب، تَعتبرها واشنطن جزءاً من تطبيقات قوانين الكونغرس المتّخَذة، وليست إجراءات جديدة.

وفي نظر واشنطن أنّ مطالبتها لبنان بمواءمة قوانينه المالية مع قوانين الكونغرس تجاه حظر أموال الحزب في مصارفه، ومطالبته ايضاً بتوقيع الاتفاقية الدولية للتعاون والانفتاح الضرائبي، لها أسباب اميركية داخلية ومفادُها طمأنة القطاع المصرفي الاميركي ودافع الضرائب في دول الغرب بأنّ لبنان ليس «جنّة ضريبية للإرهاب» وللمتهرّبين من الضرائب في بلادهم.

غير أنّ المصادر المطّلعة على هذا الملف ترسم خطاً بين ما تريده أميركا وما يريده الأوروبيون من وراء طلبِهما توقيع لبنان الاتفاقية الدولية الرامية لمراقبة احتمال وجود أموال في المصارف اللبنانية لمودعين متهرّبين من دفع الضرائب في بلادهم.

وبحسب آراء منسوبة الى منظمة الامن والتعاون الاوروبي، فإنّ هذا الطلب ليس موجّهاً ضد لبنان ودوره المالي بمقدار ما يعكس وجود تغيّر جوهري على مستوى طريقة إدارة النظام المالي العالمي أملته أزمات العالم المالية والاقتصادية المستجدّة.

وتقدّم هذه الآراء إسرائيل مثالاً، حيث إنّها طوال العقود الماضية كانت مصارفها أهمَّ «جنة ضريبية» لأموال اليهود الأميركان المتهرّبين من الضرائب؛ لكنّ إسرائيل اليوم تنصاع لأيّ طلب اميركي بتسليمها أيّ يهودي أميركي متهرّب من الضرائب.

وأبعد من ذلك فإنّ الرؤية الأوروبية الجديدة لدور لبنان المالي في منطقته خصوصاً، ترى أنّ المتغيرات الدولية والإقليمية تحتّم على المصارف أن تكفّ عن كونها مؤسسات للربح المالي وبنك المنطقة للودائع الممنوحة امتيازات السرّية المصرفية والضريبية، وبدلاً من ذلك عليها أن تصبح مصارف محلية تموّل وتقرض مشاريع داخلية من جهة، وتساهم من ناحية ثانية في المشروع الدولي الساعي لإيجاد بيئة اقتصادية إنتاجية للنازحين السوريين في لبنان، عبر تحويلهم من ديموغرافيا ريعية نازحة تعيش من مساعدات مالية وعينية مباشرة تقدّمها لها الدول المانحة، إلى ديموغرافيا منتِجة اقتصادية تعيش من إنتاجها داخل الاقتصاد اللبناني.

وتقدّم هذه النظرية أمثلة للقياس عليها، بينها تجربة الأردن الذي يؤدي منذ العام 1948 دورَ الإسفنجة الاجتماعية والاقتصادية التي تمتصّ كوارث الحروب في دول جواره التي تؤدي الى عمليات تهجير واسعة؛ كأزمة اللجوء الفلسطيني عام 1948 ومن ثمّ أزمة اللجوء العراقي خلال حربَي الخليج الاولى والثانية، ولاحقاً أزمة اللجوء السوري العارمة، وأيضاً أزمة اللجوء المصري غير المعلنة التي بدأت منذ فترة بعيدة وتحصل كلّ مرّة لأسباب مغايرة، تارةً لأسباب اقتصادية بعد عزلة مصر العربية وطرد صدّام حسين للعمالة المصرية من العراق، وطوراً لأسباب سياسية بعد ثورة العام 2011 والتراجع الأمني والاقتصادي الذي أحدثته.

ويوجد الآن في الأردن أكثر من مليون نازح سوري وأيضا نسبة عالية من اللاجئين الفلسطينيين قياساً بعدد سكّانه؛ وإليهم يوجد ٨٠ ألف عامل مصري يعملون بأجور متدنّية وتصِفهم التقارير الاقتصادية العالمية بأنّهم أصبحوا حاجة ماسّة لعجَلة الاقتصاد الأردني الذي ما عاد يستطيع التخلّي عنهم.

الأوروبيون يجدون أنّ لبنان يمكنه أيضاً الإفادة من النازحين السوريين اقتصادياً، طالما إنّ اللجوء الفلسطيني فيه يتناقص؛ والقوانين اللبنانية تقصيه عن الانخراط في عجَلة الاقتصاد اللبناني.

وبكلام إجماليّ على "لبنان الدور المالي" أن يتكيّف مع وقائع عالم جديد ومع إبداء قدرته على المساهمة في حلّ المشكلات الاجتماعية المتأتية من تسونامي الفوضى التي تضرب دولاً أساسية في المنطقة منذ العام 2011 والمصحوبة بتنقّل الديموغرافيات عبر حدودها.

(ناصر شرارة - الجمهورية)