بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي نفذتها مجموعة من الضباط في تركيا الأسبوع الماضي فإن كل مواطن من الشعب التركي البالغ تعداده بحدود الخمسة وسبعين مليون نسمة أصبح في حكم الخائن حتى تثبت براءته، ومعرض للملاحقة المفتوحة على مصراعيها من قبل السلطات التركية وبأوامر مباشرة من الاجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للرئيس رجب طيب اردوغان الذي رأى في هذا الانقلاب الفاشل هدية هبطت عليه من السماء.

والفرصة الذهبية النادرة التي قد لا تتكرر /إذ ان الفرص تمر مر السحاب/ لاستغلالها واتخاذها ذريعة نادرة قلما يعود لمثلها، لبلوغ طموحه الجامح بالأطباق على مفاصل الدولة والتفرد بأدارة البلاد وممارسة دور الخصم والحكم وتقديم نفسه في صورة الزعيم القوي والقادر على حكم بلاد مترامية، والحريص على وحدة الشعب المتعدد القوميات والنزعات والميول الطائفية والمذهبية والاختلافات الحزبية والسياسية. والحارس لعلمانية جمهورية أتاتورك والحامي لدور تركيا الإقليمي في الصراعات التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط. 


لكن لا يبدو أن الطريق سالكة وخالية من العراقيل أمام مسيرة اردوغان لاختزال الدولة بشخصه، ومحاولته إعادة صياغة تركيا من كافة جوانبها السياسية والعسكرية والأمنية والقضائية والاقتصادية والتربوية وفق منظوره الخاص. وفرض معايير وطنية ترتكز على الولاء الشخصي له ولحزب العدالة والتنمية الذي يرأسه، وتشكل معبرا لأي مواطن لينعم بجنة الولاء الوطني.

وعلى قاعدة أن القاضي او الضابط او الموظف المثالي هو الذي يوالي للفكر الاردوغاني. ولا يشق عصا الطاعة على الرئيس ولا يجاهر بالولاء لتيار آخر او زعيم آخر كي يتجنب تهمة العمالة او الخيانة ولا يعرض نفسه للملاحقة القضائية وايداعه السجن. 


فسلسلة الاجراءات الصارمة والمتسارعة والتي تبدو في كثير من الأحيان مرتبكة ومرتجلة، بالتأكيد سيكون لها تداعيات سلبية على الحياة السياسية في البلاد وستزيد من اتساع الشرخ الداخلي وتعميق الهوة داخل المجتمع التركي.

ذلك أنه لا الروح الانتقامية الموجهة ضد جنرالات الجيش والتي تبرز من خلال التقصد بنشر صور اعتقالهم وهم مقيدين بأيدي رجال الاستخبارات والشرطة والتي تهدف إلى إبراز الإذلال والانكسار على وجوه ضباط عاشت أجيال تركية خاضعة لمهابتهم إما خوفا او احتراما.

ولا توجيه تهمة الخيانة إلى المعارض الإسلامي فتح الله غولن ومحاولة اجتثاث أنصاره ولا التهديد بإعادة العمل بتطبيق عقوبة الإعدام ولا الإعلان عن حالة الطواريء لمدة ثلاثة أشهر قابلة للتمديد ولا زج عشرات الآلاف في غياهب السجون وفصل أمثالهم من وظائفهم في كل القطاعات وخصوصا في الجسم القضائي ولا إغلاق ألاف المدارس والجمعيات ومصادرة املاكها وإلغاء تراخيصها، فلا كل تلك الخطوات الارتجالية التي يقدم عليها اردوغان يمكن أن تكون السلوك السوي والطريق الآمن لاستقرار تركيا، بل على العكس فهي بداية لانقسام داخلي حاد واستقطاب شعبي وسترفع وتيرة الاحتقان وستراكم أسبابا جديدة لدخول تركيا دوامة العنف وانفجار آخر. 


وإذا لم تتوفر فرص النجاح لانقلاب الخامس عشر من الشهر الجاري، فلا شيء يمنع من توفرها لانقلاب آخر يأخذ طريقه إلى النجاح بعدما أغلق اردوغان أبواب العدالة مع معارضيه. وحرمهم من كل وسائل التعبير وحتى الدفاع عن أنفسهم وتنصيب نفسه للعب دور الخصم والحكم..