ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

"عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به أمير المؤمنين حين قال: "اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون عن البقاع والبهائم". لقد ربط الإمام بين تقوى الله والاهتمام بالشأن العام المتعلق بالعباد والبلاد، وحتى بالحيوان، فلا يمكن للإنسان أن يكون تقيا وينأى بنفسه عما يحدث من حوله، بحيث يكون أقصى ما يقوم به هو أن يتابع الأخبار، ويتأسف على ما يحصل من ظلم للعباد، وتدمير للبلاد، ومن فساد وانهيار للقيم والأخلاق. كان علي يدعو إلى تحمل المسؤولية في تغيير الواقع الفاسد والمنحرف والظالم، لصناعة واقع أفضل، وكل عليه أن يؤدي دوره في هذا المجال، فالأدوار متاحة بالكلمة والموقف، من خلال تأييد الحق والعدل والحرية، وبرفض الواقع الفاسد والظالم، من خلال التشهير بالظالمين والمفسدين، وعدم القبول بهم، وبأن لا يكون في ذلك ابن ست وابن جارية. إن الاهتمام بالشأن العام ليس اختياريا، بل هو فريضة وواجب ومسؤولية سنسأل عنها، كما سنسأل عن الصلاة والصيام والحج. إن خلودنا إلى الراحة في ظل ما نعيشه من معاناة، أفسح المجال للعابثين بأن يتحكموا بالبلاد والعباد. وقد آن الأوان لنكون صناعا لحاضرنا ومستقبلنا. نعم، هذا الأمر يفرض علينا تضحيات جمة، ولكن مهما بذلت أثمان في سبيله، فهي أخف مما سندفعه إذا بقينا على هامش هذا الواقع من حولنا. بهذا العزم وبهذه الروحية، نستطيع أن نصنع واقعا جديدا، وأن نواجه التحديات".

وأضاف: "البداية من لبنان، حيث بات واضحا أن لا حلول منتظرة لأزماته السياسية والاقتصادية من الخارج، في ظل احتدام الصراع الدولي والإقليمي، والانشغال عن الملف اللبناني، ولكن ذلك لا يعني أن هذا هو قدر اللبنانيين، فهم قادرون على كسره واجتراح الحلول إن قرروا الخروج من استثمار ما يجري في الخارج من أحداث. يستطيع اللبنانيون أن يغيروا واقعهم عندما يكون رهانهم على وحدتهم وعلى الخروج من أسر كل التجاذبات وشد الحبال الذي بات يعقد كل شيء، وما ملف النفط ببعيد. ومتى حصل ذلك، فلن تعود جلسات الحوار التي تجري جلسات روتينية لتبريد الأجواء وتجميد الفتن أو لتقطيع الوقت، بل للتفكير الجدي في اجتراح الحلول لكل الأزمات، سواء انتخاب رئيس للجمهورية، أو القانون الانتخابي، أو النفط، أو موضوع الكهرباء، أو تلوث البيئة وغيرها من الملفات العالقة، وما أكثرها".

ورأى أن "من حق اللبنانيين أن يعيشوا في وطن يحفظ حقوقهم، أسوة بغيرهم، ومن حقهم أيضا على كل من هم في مواقع المسؤولية، أن يوقفوا هذه الكارثة التي لم تعد تقف عند حدود الانهيار السياسي والاقتصادي أو المالي، إنما قد تصل بسرعة إلى انهيار منظومة القيم والأخلاق، والتي يفترض أن يكون لبنان رائدا فيها. وفي هذا المجال، وحتى لا تبدو الصورة مأساوية، لا يعدم البلد من نقاط ضوء نشهدها في هذه المرحلة، سواء في ما يتعلق بالوضع الأمني، حيث يحافظ البلد على حد معين من الاستقرار، بفعل الجهود المستمرة التي تبذلها القوى الأمنية، والمتابعة لأدق التفاصيل في الداخل وعلى الحدود، وبفعل العين الساهرة للمقاومة في مواجهة العدو الصهيوني وكل الذين يكيدون للبنان، أو في المبادرات الجادة، كما هو عمل لجنة الاتصالات النيابية في ملف الإنترنت غير الشرعي، والذي تسبب ويتسبب بخسائر فادحة لحقت بخزينة الدولة وبلغت نصف مليار دولار".

ونوه ب"مشروع التغطية الاستشفائية للمسنين، التي أعلن عنها مؤخرا، رغم أنها مغامرة، كما عبر عنها البعض، ولكن ينبغي الخوض فيها، ونحن نأمل أن تسلك طريقها إلى الواقع. إلى غير ذلك من المبادرات، والتي مع الأسف، لا تنطلق من خطة عامة وشاملة على المستوى الحكومي. وفي المجال البيئي والصحي، نأمل التحرك الجاد والسريع لمعالجة التلوث في حوض الليطاني أو بحيرة القرعون، وعدم تمييع هذه المسألة الخطرة من خلال تحويلها إلى اللجان، ولا سيما بعد الحديث عن نعيهما، رغم الأضرار البيئية والصحية والاقتصادية الناتجة من استمرار هذا التلوث الذي بات يهدد حياة المواطنين وصحتهم وأرزاقهم".

وقال: "إننا لا نعدم الوسائل للخروج من هذا النفق المظلم الذي نعانيه، إن قرر من هم في مواقع المسؤولية تحمل مسؤولياتهم، ولم يأت من يعرقل اندفاعهم. إن حالة عدم الاستقرار التي يعيشها لبنان، هي حال المنطقة برمتها على اختلاف بلدانها، حيث تتأجج الصراعات والانقسامات فيها، وتتراوح أسباب ذلك بين عبث الأيادي الخارجية التي تسعى إلى تعزيز نفوذها، وتعتبر المنطقة بقرة حلوبا وأسواق لمصانع الأسلحة لديها، ومخططات التقسيم والفتنة الداخلية التي تتم، مع الأسف، بأياد عربية وإسلامية، وبعناوين مختلفة، والتي بات من الواضح أن نيرانها لن تقف عند حدود معينة عندما تشتعل، وستحرق أيدي الذين أشعلوها وعملوا على إذكائها.

وتابع: "انطلاقا من النزيف المستمر في سوريا والعراق واليمن، والآن في تركيا، نرى أن إضعاف أي بلد عربي وإسلامي هو إضعاف لكل هذا الواقع العربي والإسلامي وهو خدمة مجانية للعدو الصهيوني، الذي لا نحيده عن المسؤولية في كل هذه الفتن، والذي يسعى جاهدا ليكون الأقوى في هذه المنطقة وفي هذا العالم".

واعتبر انه "آن الأوان لأن يرى العالم العربي والإسلامي بأجمعه مدى الاستهداف الذي يتهدده، والاستنزاف الذي يتعرض له، ما يتطلب المسارعة في طي هذه الصفحات السوداء التي أدمت الجميع، وفتح صفحات جديدة تسمح له بأن يقوي بعضه بعضا، بدلا من أن يضعف بعضه البعض الآخر، وذلك بتحصين الداخل والحد من تدخلات الخارج".

وختم: "وهنا، نقف عند مظاهر التوحش التي تشهدها سوريا، والتي كان آخرها الجريمة التي ارتكبتها إحدى المنظمات الإرهابية، والتي توصف بالمعتدلة، بحق الفتى الفلسطيني اليافع في حلب، الذي تم ذبحه بعد تعذيب شديد. إن هذه الجريمة تشير إلى مدى الجنون والانحدار الأخلاقي والإنساني الذي وصل إليه واقعنا، ما يتطلب من الجميع عدم الاكتفاء باستنكار هنا أو هناك، وإدراجها في خانة الأخطاء الفردية، أو الاقتصار على المطالبة بالتحقيق في أسبابها، للتخفيف من وقعها وعدم مواجهة المرتكبين، بقدر ما يتطلب استنفارا على كل المستويات، والمباشرة في مواجهة هذه الظاهرة الإرهابية التي لا تهدد بجرائمها سوريا فحسب، أو منطقة معينة، بل كل دول العالم. وأولى السبل إلى ذلك، هي الإسراع بالتسويات الهادفة إلى إيقاف هذا النزيف، وإخراج هذا البلد من معاناته المستمرة، والتي ستنتج مثل هذه الظواهر وأكثر منها إن استمرت".