لم تشعر الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بقلق كبير بعد العمليّات العسكريّة التي بدأ بعض أكرادها ينفّذها في مناطقهم. ولم تشعر بالقلق إيّاه ثانياً من محاولة "بلوشها" السنّة التحرّك ضد أهداف تمثّل نظامها في مناطقهم. علماً أنه كان بدأ قبل سنوات. ولم تشعر بالقلق نفسه ثالثاً من ظهور بوادر معارضة علنيّة سياسيّة للنظام الإيراني قد تتحوّل عسكريّة عند عربها المقيمين في منطقة الأحواز الإيرانيّة. كما أن انعقاد مؤتمر "مجاهدي خلق" في باريس أخيراً، وهي حركة شيعيّة معارضة بعنف للنظام الإيراني وتعرّضت جرّاء ذلك إلى أقسى أنواع القمع داخل البلاد وخارجها، دليل على بدء استقطابها تأييداً دوليّاً وعربيّاً مهمّاً.
كيف تفسِّر الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة التطوّرات السلبيّة المذكورة أعلاه؟ وما هي أسبابها؟ وهل من جهات خارجيّة محرَّضة عليها؟
يجيب قريبون من طهران ومُتابعون لسياستها وعارفون بالكثير من خبايا مواقفها وأهدافها عن هذه الأسئلة كلّها بالقول إن النظام الإيراني يحمّل المملكة العربيّة السعوديّة مسؤوليّة التطوّرات المُشار إليها أعلاه. علماً أنه كان يحمّلها في السابق أيضاً مسؤوليّة "العمليّات الارهابيّة" التي كان ينفّذها "البلوش" رغم التباعد الزمني الكبير بينها. فالأمير تركي الفيصل بن عبد العزيز ما كان ليشترك في المؤتمر الباريسي بل العالمي هذه المرّة لـ"مجاهدي خلق" لو لم يكن حاصلاً على موافقة التركيبة الحاكمة في بلاده، والمؤلّفة من الملك سلمان وولي عهده وولي ولي عهده. والمعلومات المتوافرة عند المسؤولين الإيرانيّين تشير إلى أن المملكة بدأت تنتهج سياسة جدّية لازعاج إيران أو ربّما لإلحاق الأذى بها بواسطة عرب الأحواز. وعدد هؤلاء يُراوح بين أربعة وثمانية ملايين. وتقوم هذه السياسة أولاً على تحريض أهل المنطقة المذكورة على الانتفاض على إيران سواء للإنفصال عنها بعدما ضمّتهم وأرضهم قسراً إليها قبل عقود مُستفيدة من أجواء إقليميّة ودوليّة مؤاتية، أو لإجبارها على تحسين أوضاعهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة الصعبة رغم أن غالبيّة نفطها يُستخرج من أراضيهم، أو للتوقّف عن "تفريسهم" والاهتمام بتنمية مناطقهم.
أما في العراق، فإن السعوديّة متدخّلة وبقوّة مع العشائر السنّية، وهي تسعى مع الولايات المتحدة من أجل عدم وضع السنّة تحت سيطرة الحكم الشيعي المدعوم من إيران بعد القضاء على دولة "داعش" في الموصل ومناطق أخرى.
ينطلق القريبون من طهران أنفسهم من ذلك للقول تحليلاً ومعلوماتيّاً أن التحوّل الجاري في السعوديّة من دولة انكفائيّة إلى دولة مواجهة سياسيّة وعسكريّة مستمر. فبعد إعلانها الحرب الجويّة على اليمن بالتعاون مع حلفاء لها عرب ومسلمين بعضهم من الخليج، ودعمها الحلفاء اليمنيّين الذين يقاتلون "إخوانهم" حلفاء إيران بالمال والسلاح والتدريب وبعدد قليل من جنود البر، وبعد عدم تحقيقها الحسم السريع الذي توقّعته ولأسباب عدّة معروفة، أدركت أن عليها اعتماد سياسة جديدة مُواجِهة لإيران تؤذيها مباشرة بأقل من كلفة المواجهة المباشرة رغم قرارها التمسّك بها. ففعلت ذلك. وسياستها الجديدة مُشابهة كثيراً لسياسة إيران، إذ تقوم على استغلال مكامن الضعف والتوتّر والمعارضة والرفض داخل هذه الدولة، وعلى تشجيع من يُعاني ذلك كلّه على التحرّك مباشرة بالسياسة أو بالتظاهر أو بالانتفاض المسلّح أو حرب العصابات. وهذا تماماً ما فعلته إيران ولا تزال تفعله مع المملكة والدول المعادية لها في المنطقة والعالم.
هل تنجح السياسة الجديدة التي تظن إيران استناداً إلى القريبين منها أن السعوديّة تنفّذها؟
المسؤولون الكبار في طهران يستبعدون ذلك بسبب عوامل عدّة. أوّلها اعترافهم مثلاً بالتقصير تنمويّاً على الأقل في المناطق السنّية وفي المنطقة العربية أساساً (الأحواز) ولكن على نحو أقل في مناطق الأذريّين. وثانيها مبادرتهم إلى الوعد بالتعويض عن الماضي. وفي هذا الإطار زار الولي الفقيه السيد خامنئي مرّتين الأحواز وخاطب سكّانها بالعربيّة لغتهم الأم معترفاً بالتقصير وواعداً بالتحسين. وثالثها الرابط الشيعي بين الأذريّين والفرس رغم كونهم واحداً في السلطة (خامنئي أذري) وعرب الأحواز. أما رابعها وآخرها فهو استعمال القوّة عند الحاجة.
هل تحليلات القريبين من طهران في محلّها أو ناقصة أو خاطئة؟ وهل عدم شعور إيران بقلق كبير في محلّه؟