ثبت بالوجه الشرعي انها كانت محاولة انقلاب غبية في دولة ذكية، واعية ، متقدمة، زادتها ليلة الجمعة العصيبة حداثة، ونضجاً.
كان الجيش التركي ، وربما سيظل قابلاً للاختراق ، ولانتاج ضباط تراودهم أحلام قديمة متوارثة منذ تشكيل الدولة التركية الحديثة، عن القفز من الدبابة الى السلطة، لحماية نظرية علمانية ثأرية غير متأصلة في وجدان الشعب التركي وهويته وثقافته، ولرعاية ديموقراطية مزعومة، لم يهددها يوماً سوى ذوي الازياء والرتب العسكرية.
لكن هذه المرة، التي قد تكون الاخيرة في تاريخ ذلك الجيش وتجربته العسكرية-السياسية، قدمت الغالبية الساحقة من الضباط الاتراك الكبار مثالاً لم يسبق له مثيل، عن ثقافة متطورة فعلا، لا تختلف في شيء عن ثقافة وتجربة جيوش العالم الغربي الديموقراطي، تحترم القانون والمؤسسات المدنية وتخضع لأوامرها وتلتزم بمرتبتها المتقدمة داخل الجمهورية التركية التي بدا أمس انها ولدت من جديد، و"تعمقت" اكثر من اي وقت مضى.
ليس من المجازفة القول ان تعبير "الدولة العميقة" الذي إشتق في الاصل للدلالة على تجربة العسكر التركي، قد فقد الكثير من معناها ، بل لعله لم يعد صالحاً للاستخدام  أبداً. فقد خرج الانقلابيون من هوامش المؤسسة العسكرية ومن قواعدها  المعزولة والبعيدة عن المدن الكبرى، ونشروا قواتهم، بوحي من انقلابات الستينات من القرن الماضي،  ومن دون الاخذ بالاعتبار ان الزمن تغير، وأن إتصالا واحداً على "السكايب" يمكن ان يقلب الامور رأساً على عقب.
لكن الامر لا يقتصر على سذاجة تلك الحفنة من الضباط المحدودي المعرفة، الذين انهارت حركتهم الانقلابية خلال ساعات. ثمة جمهور واسع ، لبى نداء القائد بسرعة، وخرج الى الشوارع ليدافع عن صوته الانتخابي وعن حقه الفردي وعن الفرص السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي وفرها حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب اردوغان.. خرج ليصون الاستقرار والازدهار الأطول مدى والابعد أثراً في التاريخ التركي الحديث.
لم يكن ذلك الجمهور يقتصر على اعضاء وانصار حزب العدالة والتنمية. منذ الساعات الاولى شعرت غالبية ساحقة من الاتراك من مختلف الاحزاب والقوميات انها تتلقى طعنة في الظهر من جانب فريق من الضباط الذين يودون العودة بتركيا كلها الى الوراء. لم يكن مجازياً الاعلان ان الشعب التركي هو الذي أسقط الانقلاب، ولقن فلول "الدولة العميقة" داخل المؤسسة العسكرية وخارجها درساً ختامياً لا ينسى، وأنهى اسطورة "الكيان الموازي" ومرشده الاميركي التركي الاصل فتح الله غولن.
ولعل ما يفضح غباء الانقلابيين أيضا انهم كما يبدو قرأوا بشكل خاطىء إشارات الاختلاف الاميركي مع اردوغان والتوتر الروسي إزاءه والنبذ الاوروبي له، بصفتها ضوءاً أخضر للانقضاض على السلطة. وربما كانت المؤشرات الاقليمية السورية والعراقية والايرانية عاملاً مشجعاً لهم على القيام بتحركهم الاخرق.. مع أن تلك المؤشرات بالتحديد هي من أهم علامات قوة أردوغان ودوام حكمه وهي ايضا من أهم عناصر نمو تركيا الاقتصادي والسياسي.
مثل غالبية العرب، لن يكون الاميركيون او الروس او الاوروبيون سعداء بفشل الانقلاب العسكري، الذي لم تكن له هوية سياسية واضحة، ولم يرسل في برقياته الاولى اي دلائل على موقفه او حتى على تمييزه ما بين الاسلام والعلمنة، وكلاهما لا يمكن اختزاله بذاك الاميركي التركي المثير للجدل فتح الله غولن، الذي برهن ان انتهازيته السياسية تتقدم على كل ما عداها من انتماءات وتلفيقات وصلت الى خط النهاية.
لم يكن انقلاباً عسكرياً بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن حصيلته السياسية ستشكل خطوة كبرى الى الامام، نحو قيام الجمهورية التركية الثانية، المتصالحة أخيراً مع نفسها، والمتقدمة على تجربة مؤسسها الاول.. والتي تمهد لارتقاء مؤسسها الحالي رجب طيب اردوغان نحو مصاف الزعماء التاريخيين فعلا.