خالفت مظاهرات، الجمعة، في العاصمة العراقية بغداد التوقّعات من حيث عدد المشاركين فيها والشعارات المرفوعة خلالها.
وبعد أن أوحى رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر طيلة الأيام الماضية بأن المظاهرات التي وصفها بـ”المهيبة” ستكون بمثابة بداية ثورة شعبية تصل إلى حدّ إسقاط الحكومة وإقالة الرئاسات الثلاث؛ الجمهورية والبرلمان والحكومة، آثر التهدئة ووجه تعليمات صارمة لأتباعه باختصار زمن التظاهر وإلغاء أي مظاهر مسلّحة وتجنّب الاحتكاك مع قوات الأمن والتزام المسارات التي حدّدتها وزارة الداخلية للمتظاهرين.

ووصف مراسل إحدى وكالات الأنباء مظاهرة الجمعة ببغداد بـ”المهذّبة”، في إشارة إلى الهدوء والتنظيم المحكم اللذين ميزاها.

وشمل جنوح مقتدى الصدر إلى التهدئة شعارات المتظاهرين التي لم تتعرّض لإيران على غرار ما حدث في مظاهرات سابقة حين هتف متظاهرون “بغداد حرّة حرّة.. وإيران تطلع برّة”.

وتحوّل الشعار ذاته في مظاهرة الجمعة ضد الولايات المتحدة وأصبح “بغداد حرّة حرّة .. أميركا تطلع برة”.

واعتبر مراقبون أنّ ذلك بمثابة اعتذار من مقتدى الصدر على تعرّض أنصار له في مظاهرات سابقة لإيران الداعمة الأساسية للأحزاب الشيعية الحاكمة في العراق، وتعرّضهم أيضا للجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس ضمن الحرس الثوري الإيراني، والذي طالب متظاهرون بطرده من العراق حيث كان يشارك بقيادة الميليشيات الشيعية في قتالها ضدّ تنظيم داعش.

كما اعتبروا ذلك مؤشّرا على أن الضغوط التي دفعت زعيم التيار الصدري إلى التهدئة في مظاهرات الجمعة مصدرها الأساسي إيران وإن تمّت عن طريق حكومة حيدر العبادي والميليشيات الشيعية.

وكانت القوات الحكومية والميليشيات قد بادرت، الخميس، بإجراء استعراض عسكري في بغداد وضعته تحت عنوان الاحتفال بالانتصارات ضدّ داعش، لكنها حملت رسالة تهديد واضحة للصدر وأنصاره، ترافقت مع إنذارات صريحة من حكومة حيدر العبادي بالتعامل بصرامة مع المظاهرات تبلغ حدّ معاملتها معاملة النشاط الإرهابي.

وأمر العبادي قادة الأجهزة الأمنية في الجيش والشرطة بالتعامل بحزم مع المظاهر المسلحة، فيما قالت قيادة العمليات المشتركة التابعة للجيش إن تظاهرة الجمعة غير مرخصة من الحكومة وسيجري التعامل معها على هذا الأساس.

وإزاء جدية التهديدات آثر مقتدى الصدر إمساك العصا من وسطها، بعدم سحب دعوته للتظاهر ما سيمثّل ضربة لمصداقيته وقدرته على التحكم بالمتظاهرين مستقبلا، والحرص في نفس الوقت على القيام بمظاهرة باهتة وضبط الشعارات المرفوعة خلالها.

وقالت مصادر عراقية إن ذلك تقرّر بعد مفاوضات ماراثونية جرت ليل الخميس الجمعة بين الصدر وممثلين عن الحكومة أفضت إلى اتفاق يحفظ ماء الوجه للجميع.

لا شيء يضمن للصدر النجاح إلى ما لانهاية في التحكم بالحراك الشعبي الذي يمكن أن يتحول إلى ثورة على الجميع
واحتشد أنصار زعيم التيار الصدري، الجمعة، في ميدان التحرير بوسط بغداد، مستأنفين بذلك الاحتجاجات بعد توقف لفترة من الوقت تزامنت مع معركة استعادة مدينة الفلّوجة بغرب البلاد من تنظيم داعش، وبعد أن كانوا في أبريل ومايو الماضيين قد اقتحموا المنطقة الخضراء شديدة التحصين في بغداد مرتين وعطلوا عمل البرلمان لعدة أسابيع.

وعاد المتظاهرون بنفس المطالب المتمثلة في مكافحة الفساد وإصلاح النظام القائم على المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية.

ولم تسجّل أعمال عنف في مظاهرات الجمعة. وصعد الصدر على منصة في ميدان التحرير لفترة وجيزة لمخاطبة أنصاره الذين تدفق عدد منهم على بغداد من المحافظات المجاورة.

وأصدر متحدث باسم الصدر بعد ذلك قائمة مطالب تضمنت عزل رئيس الوزراء الجمهورية ورئيس البرلمان ومحاكمة المسؤولين الفاسدين وإنهاء نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وإصلاح القضاء ولجنة الانتخابات وبث جلسات البرلمان مباشرة على التلفزيون.

وقال الصدر في كلمته “طالبنا الحكومة بإقالة المفسدين من أصحاب الدرجات الخاصة، وتقديم الفاسدين إلى محاكمة عادلة وسريعة، وإلا فالشعب كفيل بمحاكمتهم. ووقوفنا في ساحة التحرير هو من أجل تحقيق الإصلاحات الشاملة في جميع مؤسسات الدولة”.

وحثّ أنصاره على ترديد شعارات “سلمية سلمية، ونعم نعم للعراق، وإخوان سُنة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه، وبغداد حرة حرة أميركا تطلع برة”، وختم كملته بالتأكيد على أن حضوره إلى ساحة التحرير جاء لـ”مشاركة المحتجين تظاهرتهم”.

وهدد الصدر خلال كلمته بالمطالبة بإقالة الرئاسات الثلاث؛ الجمهورية والوزراء والنواب، في حال تقصيرهم. كما شدد على ضرورة إلغاء مبدأ المحاصصة والحزبية في توزيع المناصب الحكومية بمؤسسات الدولة وتشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة.

وطالب بـ”إقالة مفوضية الانتخابات -المؤسسة الحكومية مسؤولة عن تنظيم الانتخابات العامة في البلاد- واختبار أعضاء جدد غير خاضعين للمحاصصة السياسية.

ويأتي هذا المطلب في صميم الغرض الحقيقي من وراء تزعّم الصدر للحراك الاحتجاجي، وهو صراعه على السلطة ضدّ كبار قادة الأحزاب والميليشيات الشيعية الأخرى.

ويكاد يكون المطلب موجّها بالتحديد ضدّ ألدّ أعداء الصدر رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي أكّد مؤخّرا عزمه العودة إلى قيادة الحكومة سواء بإقالة رئيس الوزراء الحالي في صورة ثبوت فشله وعجزه عن أداء مهامه أو من خلال الانتخابات القادمة.

ومأتى ثقة المالكي بالفوز بالانتخابات سيطرته الكاملة على الهياكل المنظمة لها، وتحديدا مفوضية الانتخابات، التي يُتهم أعضاؤها بالتورط في الفساد وبالتبعية لكبار قادة الأحزاب والميليشيات الشيعية.

وتشير مناورات الصدر وتحكّمه بالمظاهرات أنّ الحراك الاحتجاجي الذي انطلق بادئ الأمر معبّرا عن غضب شعبي حقيقي من سوء الأوضاع واستفحال الفساد، جُيّر في الأخير ضمن لعبة الصراع على السلطة، خصوصا بين فرقاء البيت السياسي الشيعي.

غير أن مراقبين ينبّهون إلى أنه لا شيء يضمن للصدر النجاح إلى ما لانهاية في التحكّم بالحراك الشعبي، في ظل استمرار الأزمات على حالها وتصاعد الغضب الجماهيري الذي يمكن أن يتحوّل إلى ثورة على الجميع بمن فيهم الصدر ذاته.

صحيفة العرب