لم يعد الانتماء إلى داعش وتنفيذ عمليات تحت لوائها يحتاج إلى تنظيم أو أوامر من القيادة أو توفير حزام ناسف. تكفي سكين مطبخ أو شاحنة نقل بضائع لتنفيذ عملية تودي بحياة العشرات من الأشخاص وتحقق الصدى الإعلامي الذي يبحث عنه التنظيم، وهو ما عكسه هجوم نيس بفرنسا الذي خلف العشرات من القتلى والجرحى.
وحقق الهجوم بشاحنة استهدفت الآلاف من المحتشدين في ذكرى إحياء فرنسا لعيدها الوطني أقسى ما يمكن من التوحش الذي يبحث عنه داعش، خاصة أن السائق أمعن في دهس ضحاياه على مسافة كيلومترين دون أن يتحرك فيه شعور بالقرف أو التقزز من الجريمة.

وقال مراقبون إن نوعية السلاح ودرجة التوحش ستضعان فرنسا ومن ورائها أوروبا في وضع صعب، فالسلاح الذي تم بواسطته تنفيذ العملية لا يمكن أن يحد منه الاستنفار الأمني والاستخباراتي، ولا يمكن أن يمنع استخدام الشاحنات لتجنب مثل هذه الأعمال الإرهابية، فضلا عن استحالة مراقبة كل الشاحنات وتفتيشها في كل مكان تمر به.

وهي كما وصفها محلل سياسي غربي “أشبه بسكين المطبخ لا يمكن أن تمنعها الجهات الأمنية لأن بعضهم يستخدمها للقتل، بينما هي تستخدم لقطع الخضروات واللحوم”.

وأشار المراقبون إلى أن اختيار سلاح الشاحنة للقتل دهسا يؤكد التطور المستمر لأساليب التهديد التي تعتمدها الذئاب المنفردة، ما يجعل من الصعوبة بمكان التنبؤ بمثل هذا التهديد ومراقبته.

ولم يكن أسلوب الدهس جديدا في تفكير داعش، فسبق أن حث التنظيم المتعاطفين معه على اختلاق الأساليب الخاصة بهم في تنفيذ الهجمات. ففي سبتمبر 2014، حث أبومحمد العدناني المسؤول الإعلامي في التنظيم على مهاجمة الأهداف الغربية وركز على فرنسا ووصفها بالعدو الأول، لمشاركتها الولايات المتحدة في توجيه ضربات جوية لمواقع التنظيم.

بوهلال ابن نيس مركز المتطرفين
محمد لحويج بوهلال هو من تولى تنفيذ هجوم نيس، عمره 31 سنة، وهو من أصول تونسية، ومن مدينة مساكن (10 كلم عن مدينة سوسة السياحية).
وتعتبر نيس مركز ثقل لأبناء مساكن الموجودين في الخارج، والذين يقضي الكثير منهم عطلته السنوية فيها.

وتعتبر مدينة مساكن مركز ثقل للمتشددين في تونس، ويعود ذلك إلى الخطب التي يلقيها الشيح بشير بن حسن الذي يتهمه الإعلام التونسي بأنه أحد الأئمة الذين شجعوا الشباب على الالتحاق بالجهاد في سوريا.

وسبق أن عاش بن حسن في فرنسا وعمل في البناء والدهان، ثم انتقل إلى السعودية وعاد منها عالما وخطيبا.


وعرف بن حسن كذلك بتنقلاته إلى فرنسا لإلقاء الخطب، ونيس من بين المدن التي يزورها ويخطب فيها.

وتعرف نيس منذ سنوات باعتبارها أحد معاقل التطرف في فرنسا، ومجال تجنيد لجهادي فرنسي يقود كتيبة لجبهة النصرة في سوريا.

ولم يتم حتى الآن تبني اعتداء نيس الذي وصفته السلطات بأنه “إرهابي”، بالمقابل نفى جابر، شقيق المتهم بتنفيذ هجوم نيس، أن يكون لشقيقه أي انتماءات، مشيرا إلى أنه لا يصوم ولا يصلي.

لكن طريقة تنفيذه في يوم العيد الوطني الفرنسي بالغ الرمزية، يؤشر إلى وقوف مجموعات متشددة وراءه.

ومدينة نيس التي شهدت مغادرة العديد من الشبان الجهاديين، كانت هدفا للتهديد الإرهابي في الماضي.

ففي 3 فبراير 2015 وبعد أسابيع قليلة من اعتداءات يناير بباريس والتي استهدفت صحيفة شارلي إيبدو ومتجرا يهوديا وشرطية، اعتدى موسى كوليبالي وهو من ضواحي باريس بسكين على ثلاثة عسكريين كانوا يحرسون مركزا يهوديا. وأثناء احتجازه عبر عن كرهه لفرنسا والشرطة والعسكريين واليهود، بحسب المصدر القريب من التحقيق.

وقال مقرر لجنة التحقيق البرلمانية في اعتداءات 2015 النائب الاشتراكي سيباستيان بيتراسانتا “نعرف أن هناك بؤرة تطرف في نيس”.

وأضاف أنه بعد اعتداء موسى كوليبالي بداية 2015 كانت نيس وباستثناء المنطقة الباريسية “المنطقة الفرنسية الوحيدة التي أعيد تقييم مستوى الحذر الأمني فيها ليرفع إلى درجة التحذير من اعتداء”.

وإذا كان الحصول على الأسلحة سهلا في الولايات المتحدة كما حدث منذ أسابيع في الاعتداء على ملهى ليلي للمثليين في أورلاندو وأدى إلى مقتل 49 شخصا، فإن البنادق والأسلحة النارية غير متاحة في أغلب الدول الأوروبية، ما جعل منفذ هجوم نيس يلجأ إلى الدهس بالشاحنة.

وسيزيد هذا “الابتكار في الجريمة” من الضغوط المسلطة على الاستخبارات الغربية التي تركز جهودها على مراقبة الشبكات المتنقلة من سوريا والعراق في اتجاه أوروبا ومحاولة تفكيكها قبل تنفيذ أي من عملياتها. وسيكون عليها ابتكار أساليب جديدة تتناسب مع نوعية التهديدات المبتكرة بالنسبة للجماعات المتشددة.

لكن الأمر يزداد تعقيدا بعد أن ترك التنظيم مهمة العمليات للذئاب المنفردة، وهي في الغالب لا تنتمي إلى التنظيم ولم تثر حولها شكوك أمنية، وليست واقعة ضمن شبكات الرصد الأوروبية.

وسيكون على قوات الأمن الفرنسية أن تزرع المزيد من المخبرين بين المهاجرين وتستفيد من تعاون الرافضين للأعمال الإجرامية بينهم، وهم غالبية الجالية. لكن صعوبات كثيرة تواجهها قوات الأمن أهمها أن بعض منفذي العمليات الأخيرة ولدوا في فرنسا وليست لهم ميول متشددة وأغلبهم متورط في قضايا عنف أو مخدرات، ومن الصعب ملاحظة تحولهم من النقيض إلى النقيض بيسر.

وستكون المهمة الصعبة أمام الجهات الأمنية الفرنسية والأوروبية بشكل عام، هي البحث عن خلفية القاتل ودوافعه وكيفية التفكير والتوصل إلى استخدام تلك الوسيلة المتاحة على الطرقات لكل الفرنسيين للقتل.

ولن يضع هجوم نيس العبء فقط على الجهات الأمنية، فسيكون تأثيره كبيرا على الجاليات العربية والمسلمة التي سيصبح كل فرد فيها، وخاصة من الشباب، موضع شبهة لدى الفرنسيين، وهو المناخ الذي يخدم داعش ويساعده على المزيد من الاستقطاب.

وحث محللون وخبراء في الجماعات الإسلامية فرنسا على عدم الاكتفاء بالمعالجة الأمنية على أهميتها، لافتين إلى أن الفشل في إدماج الجاليات وعدم دراسة أسبابه والقبول بأن تتحول تجمعات المهاجرين إلى غيتوات مغلقة ساعد بشكل كبير على انتشار الجريمة المنظمة ولاحقا تحولت تلك التجمعات إلى بؤر للتشدد.

وبدا وكأن الفرنسيين قد استمرأوا انغلاق هذه التجمعات على نفسها، وسكتوا عما يجري بداخلها ليتفاجأوا بسيطرة أئمة متشددين وجمعيات خيرية مرتبطة بشبكات متطرفة على المجتمع المنغلق.

ودعا المحللون إلى البحث عن أسباب ما قبل سيطرة المتشددين على عقول المهاجرين، وهي الأسباب التي تمنع شبانا ولدوا في فرنسا من الولاء لها، لافتين إلى أن أعدادا من هؤلاء الشبان يلتحقون بالمتشددين كرد فعل على إحساسهم بأنه يتم التعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية في الوظائف، حيث تقل فرص توظيفهم قياسا بالشبان من أصول فرنسية.

وإذا ما نجح الفرنسيون في معالجة هذه الأسباب فسيكون من السهل عليهم تحييد الآلاف من الشبان من أصول مغاربية في المعركة على داعش، والبدء بتنفيذ الإجراءات الواسعة التي سبق أن أقروها لمواجهة تمدد التنظيمات والجمعيات المتشددة بين أفراد الجالية.

ولا يخفي الكثير من أبناء الجاليات عدم ارتياحهم للبطء في تنفيذ تلك الإجراءات، خاصة أن الجمعيات المعنية بالمراقبة وتقليص نشاطها مازالت تتحرك بحرية تامة، ومازال الأئمة المتشددون يملأون عقول الشباب بأفكار متطرفة تمثل خير هدية لداعش.

صحيفة العرب