أعلن أكراد سوريا من خلال تحالفهم الرئيسي بين الحزب الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني ­ عن إقامة منطقٍة للحكم الذاتي في المناطق التي يسيطرون عليها في شمال البلاد وشرقها، والتي يسعون إلى ربطها بعفرين على الحدود التركية من الجهة الأخرى. وهم يطمحون إلى أن يبقوا في سوريا فيدرالية مستقبلية.

إنما لو استعرضنا الدستور المعلن المؤَّلف من 85 مادة، لوجدنا أّن المشروع الذي يقترحونه هو أدنى إلى الكونفدرالية، لأنهم يفترضون أن الكيان الجديد يستطيع إقامة علاقات خارجية مع الدول الأخرى، وهو مستقٌّل في أمنه وعسكره. ولا يشّكل الأكراد أكثر من 5 في المائة من مجموع الشعب السوري. وليس صحيًحا أّن مناطقهم مترابطة باستثناء عفرين. فهم يتوزعون على أربعة أقسام أو مناطق، لكنهم ربطوا المناطق الثلاث من خلال احتلال نواحي غالبية سكانها من العرب، وقد تهّجر هؤلاء بنسبٍة كبيرة. منذ مطلع عام 2013 كان الأميركيون يراقبون تقدم «داعش» في الأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى. وقد حّذروا حكومة المالكي مراًرا من ذلك، وقدموا التوصيات لمصالحٍة سياسيٍةُتعيُد اللحمة بين الشيعة والأكراد والسنة. لكّن المالكي وإيران كانوا مهتمين بثلاثة أموٍر أخرى لها أولوية: الإعداد لانتخابات تأتي بالمالكي للمرة الثالثة إلى رئاسة الحكومة ­ وتمويل حملاتهم في سوريا واليمن ولبنان من ميزانية العراق التي منحهم المالكيُربعها على طبٍق من فضة ­ وإخراج الأكراد من الشراكة السياسية، بعد أن استتبعوا أو همشوا السنة الداخلين في العملية السياسية. لقد أراد المالكي أن يحكم العراق كما كان يحكمه صدام. ولذا فقد يئس الأميركيون من المالكي، وتضاءلت مساعداتهم للجيش والقوى الأمنية والاستخبارات، ولمُيظهروا ضيًقا شديًدا كالعادة، لأن الأولوية عندهم أيًضا كانت للملف النووي الإيراني وعدم إزعاج إيران!

إّن كَّل هذه الاعتبارات تبخرت بعد ضربة «داعش» فيما بين الأنبار والموصل في صيف عام 2014 .وظّن المراقبون أّن الأميركيين غيروا مواقفهم وقرروا التدخل خوًفا من احتلال بغداد، أو بسبب احتلال الموصل. أما الحقيقة فهي أّن تدخلهم السريع أتى لاتجاه «داعش» للتغلغل في المنطقة الكردية. فالخط الأحمر الأميركي والروسي والإسرائيلي بالمنطقة هو خط صون الأقليات كما يقولون، وأهمها وأكبرها هي الأقلية الكردية التي يزيد عددها في تركيا وإيران والعراق وسوريا على الثلاثين مليوًنا. وقد اعتنت الولايات المتحدة بالأكراد في العراق في المرحلة المعاصرة منذ إقامة منطقة حظر الطيران (1992 ­ 1993 ،(بحيث صارت بالفعل شبه دولٍة مستقلة ومزدهرة قبل سقوط صدام 2003 (وبعد الغزو والسقوط).

وإذا كان الغزو الأميركي للعراق هو الذي أدخل تغييًرا جذرًيا على سائر الأوضاع في ذلك البلد، ومن ضمنها الوضع الكردي؛ فإّن الاضطراب السوري يوشك أن يغّير الأوضاع الكردية من تركيا وسوريا وإيران أو أّن الأكراد جميًعا يطمحون لذلك. ذلك أّن الثوران السوري جذب إلى زوبعته الدول الكبرى (أميركا وروسيا وأوروبا إلى حٍد ما)، بينما انخرطت فيه بدرجاٍت متفاوتة كٌّل من إيران وتركيا.. وإسرائيل. إيران أرادت الحفاظ على حليفها بشار الأسد، وتركيا أرادت إزالته بعد تردد، وإسرائيل أرادت الحفاظ على الهدوء على حدودها مع سوريا، وعدم وصول الإيرانيين إليها. ومَّر التعامل الأميركي مع الأزمة السورية بمرحلتين: مرحلة محاولة إحداث تغيير سياسي بالأسد أو من دونه، ومرحلة تسليم الملف لروسيا مع التشاور الدؤوب المستمر. أما إيران وتركيا فقد نشب بينهما الصراع على سوريا فلم تتعاون بشدة هي وميليشياتها مع الأسد فقط؛ بل وساعدت الأكراد في صراعهم مع تركيا، وفي صراعهم مع الأتراك على الحدود السورية/ التركية. أما الأكراد أنفسهم في سوريا فقد مروا بثلاث مراحل: مرحلة التعاون مع الثورة السورية. ثم مرحلة التقارب مع الأسد نكايًة في تركيا، وهم اليوم في مرحلة محاولة إقامة الكيان المستقل. وما كان الأميركيون معنيين بشكٍل خاٍص بوضع الأكراد في سوريا. وكانوا يعرفون أّن المسَّلحين الذين ظهروا في مناطقهم إنما يدِّربهم ويقودهم حزب العمال الكردستاني، وأنهم سائرون للصدام مع تركيا. ولذلك انصّب جهدهم على الجدل مع الأتراك بشأنهم. لكْن انتهى لديهم كل شك عندما ظهر «داعش» في سوريا ثم في العراق. فكما اختاروا الأكراد بالعراق للبدء بمقاتلة «داعش»، اختاروا الأكراد أيًضا في سوريا للغرض نفسه؛ وبخاصة أّن «داعش»، الذي حاول اختراق كردستان العراق، حاول أيًضا احتلال المناطق الكردية السورية التي تحررت من سيطرة الأسد بالتوافق.

لقد اتجه الأتراك للتصالح مع الروس. وأولى ثمرات التصالح التعاون في الملف السوري كما قال الطرفان. كيف سيتعاونون؟ وبخاصة أّن أولوية تركيا في سوريا كردية. والروس مثل الأميركان يدعمون الحَّل الفيدرالي الكردي في سوريا. ثم إّن توتًرا جديًدا ظهر في العلاقات الكردية الإيرانية. فهناك حزبان كرديان إيرانيان مسَّلحان ويقومان بعمليات متقطعة، ويريدان الاستقلال (الحزب الديمقراطي، وحزب الحياة الحرة). ومسلحو الحزبيين يلجأون إلى إقليم كردستان العراق عندما تضايقهم القوى الأمنية الإيرانية. الإيرانيون ظهرت حشودهم على الحدود مع إقليم كردستان العراق، وجرى قصٌف مدفعي كثيف على حدود الإقليم، سقط فيه قتلى من الطرفين. إيران ما حسبت عواقب معونتها لأكراد سوريا وأكراد تركيا نكايًة في تركيا. وتركيا ما حسبت حساًبا لإمكانيات تقديم أميركا وروسيا للعلاقات مع الأكراد على العلاقات معها خلال العامين الماضيين!

المشروع الكردي الجديد في سوريا لا يحظى بالطبع باستحسان النظام السوري ولا باستحسان تركيا. وقد لا يستطيع الأكراد الربط بين المناطق. وقد لا يستطيع الأميركيون والروس دعمهم علًنا في مشروعهم الانفصالي الآن على الأقل. لكّن مناطقهم القائمة حالًيا هي شبه مستقلة، ولها إدارة ذاتية، ولديها ما بين 40 و50 ألف مقاتل نصفهم من أكراد تركيا. وما تزال الولايات المتحدة (وربما روسيا) بحاجٍة إليهم لأخذ منبج، وربما لعب دور في الرقة. لقد أخطأ الأتراك في تأخر مواجهتهم لـ«داعش». وأخطأوا في التصارع مع أميركا وروسيا، فهل تحدث مصالحٌة بين القوى الثلاث وبالتالي تعاون في الملف السوري؟ وأين هي إيران من كل ذلك؟ هل تتعاون مع تركيا من جديد للتخفيض من طموحات الكرد، أم أنها لا تزال تفَّضل تقسيم سوريا إلى أقاليم علوية وسنية وكردية، باعتبار أّن ذلك هو الأشّد إضراًرا بالعرب السنة، وأكثر ضماًنا لمستقبل حزب الله؟! ثم ما هي المصالح الحقيقية للقوى الكبرى والعرب؟ الجميع يقول بأن تعود سوريا موحدة ومستقرة. وهذان الأمران، وإن لمَيْبُد منهما شيٌء في اُلأُفق حتى الآن ربما كانا المخرج للجميع، لأن أحًدا لن يخرج منتصًرا، ولأّن أحًدا لا يستطيع السيطرة على المشهد بكامله.

إّن الظاهرة الأوضح في العراق وسوريا هي ظاهرُة التصُّدع والتفكك. ومن شقوق الصخرة المتصدعة يظهر مشهٌد كردي جديد تبدو في وجهه صعوبات كثيرة، لكّن إخفاءه ما عاد ممكًنا.