أولاً: الخيال الرائع..
نشرت جريدة الأخبار، مقالا للأستاذ جان عزيز، ينضح بالعبقرية من جهة، وبقدرة الصحافي الخارقة في استكشاف أخطر الوثائق الاستخبارية من جهة أخرى، فيورد لنا قصة مُشوّقة تتعلق بأحداث القاع المأساوية، وهي تنمُّ عن خيال واسع للكاتب وقدرة فائقة على وضع سيناريوهات مفبركة بقالب "الوقائع المثبتة".
أمّا كيف يمكن التثبّت من واقعيتها ؟ فيكفي أن يكون جنابه"بحد ذاته" مصدرها وضامن ثقتها، ولئلا نطيل، السيد عزيز يروي لنا عن مقدار كفاءة أجهزتنا الأمنية وسهرها المتواصل على أمن المواطنين في ذات الوقت، فهذه الأجهزة لاحقت وراقبت على مدى أشهر (مراقبة لصيقة) اتصالات ونشاطات هدف إرهابي في منطقة القاع، في منطقة البقاع الشمالي. ماذا راقبت؟ تنقّلاته، طرقه ووسائله، أنواع الأنشطة الإرهابية التي يُتقنها، وهاهو يتحضّر لعمليات تفجير كاملة ( بالوقائع والأسماء والتفاصيل). جيد جدا، الأجهزة، بحمد الله، تقوم بمهامها خير قيام، وتُقرّر إلقاء القبض على الهدف اللعين، إلاّ أنّ الحبكة الدرامية تتطلب عنصرا مفاجئاً غير متوقع، فقبل الانقضاض على الهدف، ينقضّ موكب سيارات تابع لإحدى المنظمات الدولية التي تقدم خدمات اغاثية للنازحين السوريين، وبما أنّنا في بلد يحترم ويُقدّر عمل المنظمات الدولية، ونُبل مهامها الإنسانية، فإنّ الأجهزة لم تعترض مهمة الموكب السيار، الذي توجّه نحو "الهدف الإرهابي"، وهكذا ذهبت جهود الأجهزة، التي عملت عليها أشهرا، في لحظة واحدة، لحظة دخول الموكب الأممي "الإنساني" ليُنقذ الهدف من براثن الأجهزة" الرسمية" اللبنانية، وللأسف، ضاع بعض الوقت الضائع، يقول عزيز، فتفوّقت المنظمة الدولية على الأجهزة الأمنية ، ونقلت الهدف عزيزا سالما مكرّما ،لكن إلى أين؟ فالمفترض بالأجهزة المتكاملة أن لا تتوانى عن ملاحقته، وقد علمت بخروجه المظفّر،ملاحقته مع المتورطين معه واعتقالهم، إلاّ أنّ قصص الملاحم الشعبية كالزير أبي ليلى المهلهل، وأبو زيد الهلالي بحاجة إلى المزيد من التشويق السردي، فقد تبيّن لاحقا ( للأجهزة أم للسيد عزيز، لا ندري) بأن إجراءات سفر الموظف الإرهابي كانت معدة، من حجز غرفة الفندق، إلى بطاقة السفر، إلى أوراق اللجوء اللازمة،( وهذا كله في غفلة عن عيون الأجهزة، وإلا ستُتّهم بالتواطؤ فضلا عن التقصير).
كل هذه الخيبات والمخازي التي ينسبها عزيز للأجهزة( وهي على الأرجح براء من كلها) يُجملها بالقول : إنّها مجموعة كبيرة من "المصادفات" ، سقطت في اللحظة الأخيرة قبل إلقاء القبض على الموظف الأممي الإرهابي، فلولا المصادفة السيئة لكان الإرهابي في قبضة العدالة، وكانت القاع قد نجت ممّا حلّ بها، إلاّ أنّ "الأخطر" في نظر عزيز هو تحول هذا الإرهابي إلى بلاد الغرب، حيث سينقضّ لاحقا على الأبرياء الغربيين ، كان الله في عونهم، فزيادة في غبائهم، ما زالوا يستقبلون أمثال هذا الإرهابي الخطير.
ثانيا: الاستنتاجات الباطلة..
يبني السيد عزيز على هذه الواقعة" المثبتة" استنتاجات وتحليلات لن أناقشها، فهي مقولات ومعزوفات أصبحت مكرّرة ومُمّلة ، لا داعي للخوض فيها في مقامنا هذا، إلاّ أنّي أحبّ أن أسجّل ، أنّهُ لو صحّ جزءٌ يسير من رواية عزيز، لكانت إدانة دامغة للأجهزة الأمنية التي نتبارى هذه الأيام في الإشادة بمناقبيتها والاتكال عليها، بعد أن اتضح افلاسُ السياسين، ولكني اسارع لأدفع عن هذه الأجهزة تهمة التواطؤ والتقصير، فضلا عن تهمة الغباء والاستهتار بأرواح المواطنين، الذين قضوا، والذين ما زالوا ينتظرون، وما بدّلوا تبديلا.