مع مرور الذكرى الأربعين لرحيل المفكر الإيراني الشهير الدكتور علي شريعتي، ينبغي أن نتذكر هذه القامة كشخصية فكرية استطاعت أن تصنع مرحلتها وتقود ثورة فكرية في عصرها لا تزال أصداؤها مدوية حتى يومنا هذا .

يعتبر الدكتور علي شريعتي واحد من مفكّري القرن العشرين الذين دار حولهم الكثير من الجدل. وقد تعرض لإتهامات عديدة من قبل خصومه حيث اتهمه الخصوم بأنّه زنديق، ووهابي، ورافضي، وماركسي وغير ذلك من الإتهامات، إلا أن ما لا يمكن إنكاره أو تجاوزه هو  دور شريعتي الذي كان مؤثرا جدا في جيل الثورة ضدّ نظام الشاه في إيران، رغم أنّه توفي قبل انتصار الثورة بعامين عن عمر 43 سنة.   

الولادة والنشأة العلميّة

ولد علي محمد تقي شريعتي في كانون الأوّل/ديسمبر عام 1933 في قرية (مزينان) القريبة من مدينة مشهد في محافظة خرسان. ينحدر الدكتور علي شريعتي من أسرة متعلمة، فقد كان أبوه كاتباً ومفكّراً إسلاميّاً معروفاً، وقد كان لشخصيّة الأب محمّد تقي شريعتي والبيئة العلميّة التي نشأ فيها الدكتور علي شريعتي دور كبير في رسم معالم شخصيّته وهويّته العلميّة والدينيّة.

في عام 1955 إلتحق علي شريعتي بكلية الآداب جامعة مشهد وتخرج منها بدرجة امتياز عام 1958.

أرسل في بعثة دراسية إلى فرنسا عام 1959 حيث حصل على شهادتي دكتوراه؛ الأولى في تاريخ الإسلام والثانية في علم الاجتماع. تزوج علي شريعتي أثناء دراسته الجامعية في مشهد من زميلته (بوران شريعتي رضوي) عام 1956.  

نشاطه السياسي يعتبر علي شريعتي من المؤسسين للثورة الإيرانية التي قادها فيما بعد الإمام الخميني، ومن من أبرز المنظرين لهذه الثورة وفي مقدمة مفكريها، وكان له التأثير الكبير في التعبئة الفكرية والسياسية التي سبقت الثورة الإسلامية عام 1979، إلى حد أنه كان يلقب في أوساط الشعب (معلم الثورة).

انخرط شريعتي منذ أن كان صغيراً في العمل السياسي، حيث انضم هو ووالده في نهاية الأربعينيات إلى حركة كانت تضم جماعة من المثقفين الإيرانيين المتأثرين بالأفكار اليسارية، التي كانت تجد صدى واسعاً في ذلك الحين، وهي حركة “الإشتراكيون الذين يخشون الله”.

 شريعتي في إيران :

في منتصف الستينيات عاد الدكتور شريعتي إلى إيران، بعد تحصيله لدكتوراه في علم الإجتماع الديني، وأخرى في تاريخ الإسلام. وعلى الحدود الإيرانيّة ألقي القبض عليه، ثمّ أطلق سراحه بعد فترة.

ثمّ عُيّن مدرّساً بجامعة مشهد.  وفي إيران كانت نقطه التحول في مسيرة شريعتي هي حسينية الارشاد، التي افتتحت عام 1969 لكي تكون مركزاً علمياً ركّز فيه شريعتي كل نشاطه، إلى جانب عددٍ من العلماء والمثقّفين الإيرانيّين من أمثال العالم مرتضى مطهري وغيره .

وكانت حسينية الإرشاد المحطة التي اعتمدها الدكتور شريعتي لإلقاء المحاضرات المنتظمة عن الإسلام وتاريخ التشيّع، مصححاً من خلالها بعض المفاهيم السائدة.

وأسّس في هذه الحسينيّة خمس لجان للإشراف على النشاطات المتعددة: لجنة تاريخ الإسلام، لجنة تفسير القرآن، لجنة للأدب والفن، لجنة للغة العربية لتصحيح منابع التراث الشيعي، ولجنة للغة الإنكليزية لحمل رسالة الإسلام العالمية ونشرها. 

وكانت حسينيّة الإرشاد بالنسبة لشريعتي منبراً لشحذ الهمم، والتعبئة الفكريّة والسياسيّة لجيل من الشباب التفّ حولها.   

شريعتي وتحديث الفكر الديني :

هاجسان رئيسيان سيطرا على مسيرة الدكتور علي شريعتي الفكرية والإصلاحية. فهو يكاد يكون «ابن رشد» جديد يشهر عقله في مواجهة التراكمات الطفيلية والانتهازية والسياسية التي غلفت الدين ومذاهبه فانحرف بعيداً تحت سيطرة الفقهاء التجار والسياسيين.

معركته الأولى كانت داخل المذهب الشيعي، انتقل منها إلى تقليم الخلافات بين المذاهب وصولاً إلى وحدة إسلامية عقلانية، انتهاءً بمحاولته بث الوعي لدى الجماهير لتنظيم علاقتها مع السلطتين السياسية والدينية بموضوعية جدية وواضحة.

ولعل أصدق مثال على هذا التوجه العلمي المنفتح على الثقافة العالمية مقالته عن المفكر الإسلامي الهندي - الباكستاني محمد إقبال. يقول شريعتي في مقالته «إن أعظم نصيحة قدمها ذلك المفكر الهندي المسلم هي: ليكن قلبك مثل قلب المسيح، وفكرك مثل فكر سقراط، ويدك مثل يد قيصر.

وليكن كل ذلك في إنسان واحد».

فهو يؤكد على المنابع التي شكلت إنساناً يستطيع ان يجمع المحبة والحكمة والقوة في شخصية واحدة. فمحمد إقبال ذهب إلى اوروبا وتعرف على مدارسها الفلسفية وعرّف الناس بها عندما عاد إلى الهند.

ورغم أنه عاش في القرن العشرين وفي خضم الهيمنة السياسية والحضارية الغربية.

ورغم اعتراف الجميع به وبعلمه، وبأنه فيلسوف من فلاسفة القرن الماضي إلا أن أحداً لا يتهمه بأنه صنيعة الفكر الغربي أو أنه «تغريبي»، بل على العكس، فشريعتي يرى أن إقبال استوعب ثقافة الغرب فصار لا يرهبها.

وذلك لأن معرفة إقبال بالغرب مكنته من السيطرة عليه، وسلاحه في ذلك هو ما يمتلكه من ملكات نقدية وقدرة على الاختيار والتقييم واستنخاب الأفضل والأصلح.  

وفاته وُضع الدكتور شريعتي تحت المراقبة ومُنع من أي نشاط لفترة من الزمن وتعرض للسجن مرات عدة وفي آذار/مايو 1977 سمحت له السلطات الإيرانيّة بالسفر إلى لندن .

وبعد شهر من إقامته في العاصمة البريطانية  عُثر عليه ميتاً في شقّته، ميتةً غامضة، أعلنت السلطة انّها جرّاء نوبة قلبيّة!

وأغلب الظنّ أنّ الأمر كان مدبّرا من السلطة في إيران التي استخدمت هذه الوسيلة لتصفية العديد من معارضيها.

لم تسمح السلطة بدفن جثمان الدكتور شريعتي في إيران، فنُقِل إلى دمشق وتمّ دفنه في الحرم الزينبي، حيث صلّى عليه الإمام موسى الصدر.