أولا: قبل ظهور الإمام الصدر..

قبل ظهور السيد الصدر على مسرح الأحداث في لبنان، كانت الطائفة الشيعية هي المنبع الأول لكافة الطاقات والكوادر الوطنية والحزبية طوال فترة الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، فقد انخرط مناضلوها  ومفكروها في الأحزاب القومية والماركسية، القومية كحركة القوميين العرب، والحزب القومي السوري وحزب البعث العربي الإشتراكي، والأحزاب والمنظمات الشيوعية كالحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان، وأسهم مُثقّفوها في صياغة برنامج الحركة الوطنية اللبنانية المرحلي، والذي طُرح قبل اندلاع الحرب الأهلية،في محاولة لإصلاح النظام السياسي اللبناني ،وتجنّب ويلات الحرب الأهلية، وساهم مناضلوها ومقاتلوها في الانخراط الواسع، مع كافة الفئات المناضلة، في قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي تصدّت لسلسلة من الأعمال العدوانية الإسرائيلية، حتى غدت الطائفة الشيعية كما وصفها بعضهم ذات يوم: خزّان الحركة الوطنية اللبنانية، طائفة كانت عماد الحركة الوطنية، ببرنامج وطني لا طائفي، مع استشراف الخطر الصهيوني، وهذا ما دفعها للاندماج في قوى المقاومة الفلسطينية، في عزّ المواجهة مع الكيان الصهيوني الذي خرج ضافراً بعد حرب العام ٦٧.

وظلّت ماثلة في الأذهان حتى يومنا هذا ما ذهب إليه السيد محسن إبراهيم بأنّ المقاومة الفلسطينيةهي  رافعة النهوض العربي بعد النكسة، وبعد حالة الذّل والهوان التي خلّفتها هزيمة عام ٦٧.

ثانياً: ظهور السيد موسى الصدر..

ظهر السيد الصدر في صور بجنوب لبنان، ليخلف مقاماً روحيا رفيعا هو السيد عبد الحسين شرف الدين، وكان ظهورهُ مفاجئاً ومشبوها، فالصدر ظهر كعالم دين منفتح على الطوائف الأخرى، وفي نفس الوقت ينشد مكانة خاصة للشيعة، وبحجّة حرمان الطائفة من حقوقها، اندفع الصدر في سبيل تحصيل هذه الحقوق، وعلى رأسها إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ونجح في ذلك،ثمّ اندفع في تأسيس إطار سياسي لحركته الدينية-السياسية، فكانت "حركة المحرومين"، وهي بداية تاريخ" مذهبة" الطائفة الشيعية، أصبح للشيعة حركة سياسية بمواجهة الحركة الوطنية، وتسير جنباً إلى جنب معها وتُزاحمُها السُّبُل.

وقد تمكنت حركة الصدر من اجتذاب قطاعات واسعة من الطائفة بسبب التباس شعاراتها مع الشعارات الوطنية ومقاومة العدو الصهيوني، ولكن بلكنة مذهبية شعائرية، يحفزها قدُماً الاستلهام الإسلامي والحُنُوّ الشيعي، وهذا ما ليس متوفرا في صفوف الحركة الوطنية، وهكذا تمكنت حركة المحرومين من سحب العصب الرئيسي للحركة الوطنية من داخل الطائفة الشيعية، ونستطيع اليوم أن نعتبر حركة المحرومين أول مسمار دُقّ في نعش الحركة الوطنية، قبل أن يُجهز عليها الاجتياح الإسرائيلي عام ١٩٨٢، وتلاعبات سلطة الوصاية السورية.

ثالثاً: غياب السيد الصدر..

كما ظهر السيد موسى الصدر بطريقة مسرحية فاعلة، أحدثت حراكاً شيعيا أشبه ما يكون بالزلزال، غاب أو غُيّب، بطريقة درامية هذه المرة، وما زالت أسرار غيابه غامضة حتى اليوم، فتقدّم السيد نبيه برّي ، صنيعة النظام السوري وربيبُه، ليضع يده على إرث الإمام المُغيّب، بزعم أنّه حاملُ الأمانة من صاحب الأمانة، لكنّ الوريث الفعلي لإرث الصدر، كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ففي غياب الصدر تمكن الأسد من تنظيم مواجهات عدّة مع فصائل الحركة الوطنية، ومع الفصائل الفلسطينية، فيما عُرف بحرب المخيمات.

وقد خسرت حركة أمل في هذه المواجهات خيرة مقاتليها وكوادرها.

ثمّ ما لبثت أن دخلت الحركة الخمينية إلى الساحة اللبنانية، التي أصبحت مُهيّئة لاستقبالها بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٨٢، ودخلت الخمينية والممثلة بحزب الله، لأخذ حصتها من التركة الصدرية، فحصلت الانشقاقات والمواجهات وحروب الأخوة- الأعداء، أمل وحزب الله، حتى استقرّت الثنائية الشيعية التي نعيش تحت سلطتها وسطوتها.

رابعاً: الطائفة ليست الثنائية..

الطائفة الشيعية ليست ثنائية أمل وحزب الله، المُطبقة على رقاب العباد من أبنائها، إنّها نقيضُها، فهي علمانية بفكرها وانفتاحها وغناها الثقافي والديني والحُسيني، صحيح أنّها عانت وتُعاني من ثقل التدخل السوري أولا، والتدخل الإيراني تاليا، إلاّ أنّها ستخرج من محنتها، وستعود إلى أصالتها، لم تنته صلاحيتها ،كما قرأت مؤخرا مقالة بهذا المعنى، ما زالت منبع العلوم والنضال والوطنية والقومية، وهي أبعدُ الطوائف عن التحجُّر والتعصّب والمذهبية، وسيتحقّق ذلك حالما يزول العامل الخارجي، وهو إلى زوال حتما.

وما زالت الطائفة الشيعية خزّانُ الحركة الوطنية اللبنانية، مناضلين ومقاومين ووطنيين وقوميين وأُمميّين.