موسى الصدر عالم دين ورجل سياسة من الطراز الرفيع قدم إلى لبنان في فترة حساسة من التاريخ السياسي في هذا البلد حيث إنتشرت الأفكار الناصرية والقومية والماركسية واليمينية والبعثية وغيرها.

أثار قدومه المفاجىء العديد من التساؤلات التي لا زالت إلى الآن تطرح علامات إستفهام حول قدومه وتغييبه. وهذه التساؤلات مبررة للذين لا يعرفون حيثيات التاريخ ولم يطالعوا مسيرة موسى الصدر والوثائق التاريخية المؤرشفة التي وثقت تلك الفترة. ولكنها غير مبررة للذين يعرفون التاريخ ويبحثون ويدققون فيه.

 

الزيارة الأولى للبنان:

زار السيد موسى الصدر لبنان لأول مرة عام 1955 للتعرف على أقربائه من آل شرف الدين في شحور. وكان اللقاء الأول مع السيد العلامة عبد الحسين شرف الدين عائليا بالدرجة الأولى وترك إنطباع جيد وحسن لدى شرف الدين كما أخبر بذلك إبنه جعفر لاحقا. فالسيد عبد الحسين وجد من خلال هذا اللقاء شخصا جديدا بطريقة التفكير والرؤية والأسلوب ووجد فيه أملا ومستقبلا لأبناء المنطقة، فإستمر لطوال سنتين بعد اللقاء في مدح الصدر أمام زواره وهي عادة متعارفة عن أئمة الشيعة عندما يمهدون لخليفتهم.

أما السيد فعاد إلى إيران بعد أن أخذ صورة أولية عن واقع الحرمان على مختلف المستويات الذي يعيشه أبناء المنطقة. عاد لإيران لمزاولة عمله ونشاطه وهو أول رجل دين حوزوي يدخل جامعة طهران وينال شهادة جامعية في مجال العلوم السياسية.

 

طلب أهل جبل عامل من الإمام العودة إلى لبنان:

توفي السيد عبد الحسين شرف الدين في 30 كانون الأول 1957 وأحدث ذلك فراغا في الواقع الحياتي والسياسي لجبل عامل بالخصوص.

أرسل السيد جعفر شرف الدين رسالة إلى الإمام بإسم أهل جبل عامل للمجيء إلى لبنان. وهذه الرسالة ما كانت لتكتب لولا ما سمعه السيد جعفر من والده في مجالسه الخاصة والعامة. شجع آية الله حسين البروجردي الإمام الصدر للذهاب إلى لبنان لأن أبناء المنطقة بحاجة لخدماته وبعد أن ألحوا عليه بالقدوم، لبى الإمام الدعوة في اواخر العام 1959.

 

رسالة آية الله مرتضى آل ياسين حول الإمام :

آية الله مرتضى آل ياسين، علامة ورجل دين ومرجعية، تتلمذ على يديه السيد محمد باقر الحكيم ، وتعلم على أيدي المراجع النائيني والأصفهاني،هو صاحب كتاب النظرة الدامعة.

كتب في العام 1960 رسالة الى السيد جعفر شرف الدين بعد قدوم الامام الصدر إلى صور، وهذه الرسالة هي من محفوظات السيد جعفر شرف الدين وهي كالآتي:

" بسم الله الرحمن الرحيم

عزيزي الكريم سيادة الأستاذ الفاضل السيد جعفر شرف الدين المحترم

السلام عليكم مبلغ الشوق إليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد.

فقد علمت منذ أمدٍ قريب بأن فضيلة السيد السند والثقة المعتمد العلامة الجليل حجة الإسلام السيد موسى الصدر آية الله , قد إستجاب أخيراً لدعوتكم الملحة بالهجرة إلى صور فهاجر إليها فعلاً وحل بها أهلاً ووطأ منها سهلاً ، ذلك ليملأ فيها هذا الفراغ الشاغر الذي ظل طوال هذه الفترة الكئيبة يتطلع إلى ذلك الرجل المثالي الجدير بتمثيل رجل الدين في علمه وعمله وفي هديه ووعيه إلى أن منّ الله عليه بهذه الشخصية المثالية المزدانة بكل عناصر الخير والمجهزة بكل طاقات العمل في سبيل النفع العام . فبورك لصور ومن فيها بهذه التحفة الثمينة التي تفضل الله بها عليها وإني لواثق بأن هذا النور الذي سطع في سماء صور سوف لا يقف عند حدودها كما يقف نور المصباح عند حدٍ من الحدود ، بل أنه ولا شك سيتجاوزها ويتعداها حتى يعّم العالم الإسلامي بأسره وما ذلك عن لطفه تعالى ببعيد.

وختاماً ، أرجو إبلاغ تحياتي ودعواتي إلى فضيلته راجياً له حسن الإقامة في ذلك البلد الأمين إلى جنب أسرته الكريمة أسرة الشرف الأصيل والمجد الأثيل.

سلامٌ الله عليه وعليهم أجمعين مني ومن الجميع ورحمة الله وبركاته ، كما أرجو إبلاغ تحياتي إلى السيدة النبيلة أم الباقر مع تقبيل وجنات ولديها الحبيبين رعاهما الله بعينه وجعلهما في حصنه بالنبي الأمين وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مرتضى آل ياسين"

وله قصيدة شعرية حول قدوم الإمام والتي تعكس إيمانه وقناعته وثقته بالإمام الصدر، والقصيدة تقول:

"يا صور شعّي بالسنا الوضاءِ وتجمّلي بمطارف العلياءِ

وتبلّجي فالنيّرات تبلّجت تهدي لأفقك زاهر الأضواء

وتعّطري بشذا الربيع فقد أتى يحبو ربوعك عاطر الأشذاء

واستلهمي وحي الكمال يشعّ من نور الهدى والحكمة الغراء

قد ان تجلى فراعنة الهوى ويزول سحر الغي ّ والإغراء

فلقد أتى موسى الرشاد يزيلها بعصا الفضيلة واليد البيضاء

فذٌّ تحدّر من سلالة أحمد ووصيه والبضعة الزهراء

وبدا بآفاق السيادة كوكبا ً للحق يجلو غيهب الظلماءِ".

هذه الرسائل والقصائد، يضاف إليها آراء مراجع عظام حول شخصية الإمام الصدر كقول الفيلسوف والمرجع والمفكر السيد محمد باقر الصدر الذي تتلمذ على يديه السيد الفاضل محمد حسين فضل الله فقال باقر الصدر:" لولا ذهاب موسى الصدر إلى لبنان لكان مرجع الشيعة في العالم". إضافة إلى آراء المراجع الكبار كالخميني والسيستاني وفضل الله وغيرهم حول شخصه الكريم. مجيء الصدر إلى لبنان كان واضحا وضوح الشمس ودوره شفاف بعيد كل البعد عن الإشتباه أو التخوين.  

 

قضية المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى:

كان الشيعة يتبعون إلى دار الإفتاء، وقبل أن ينفصلوا عنهم، قام الإمام بدراسة وضع الشيعة وواقع الحرمان الذي يعانوا منه وإستنتج أن الشيعة يجب أن يكون لهم هيئة او مجلس خاص لتنظيم شؤونهم لرفع الحرمان وليس من باب الإنفصال عن السنة. لذلك فالكتب الدينية التي تصدر عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كانت تتحدث عن الصحابة الكرام كأبو بكر وتصفه بالصديق وتصف مسيرته مع الرسول وتترضى عليه ولم تكن كتب تحرض على الطائفية أو المذهبية. كما كان للإمام وإنطلاقا من مبادىء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى أطروحات حول التقارب والتوحد مع الإخوة السنة، كتوحيد الأذان مثلا ولكن المفتي الراحل خالد رفض الأمر وكذلك محاولات لتوحيد قانون الأحوال الشخصية في لبنان.

وإستقبل الإمام في الأزهر إستقبالا جديا ولم يكن مسرحية او تمثيلية بأن يخطب في المغرب والجزائر ويحاضر حول الوحدة مع السنة تحت راية الإسلام. وعندما إستقبله جمال عبد الناصر، إستقبله لإيمانه بعظمة ورفعة الشخص الموجود أمامه. وعودة إلى خلفيات تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وكما هو معروف أن جميع الطوائف لها مجالسها الروحية الخاصة. فقد أنشئ بالمرسوم الاشتراعي رقم 18 تاريخ 13 يناير 1955 تنظيم خاص بالطائفة الإسلامية السنية الكريمة يعلن استقلالها، وأنشئ بعده بالقانون الصادر بتاريخ 7 ديسمبر 1962 تنظيم خاص بالطائفة الدرزية وبقى الشيعة لوحدهم من دون تنظيم خاص بهم وهم يشكلون ثلث سكان لبنان. فكيف بالدروز وهم أقل بالعدد أن يكون لهم تنظيمهم الخاص ولا يكون للشيعة؟ السؤال هو مجرد محاكاة مع إحترامنا للطائفة الدرزية الكريمة.

فغياب الخدمات الدينية في الجنوب والبقاع والتي كانت مقتصرة على حالات فردية من قبل رجال دين سبقوا الإمام، كان نشاطهم فردي. ومن يعرف شخصية موسى الصدر يدرك أن الرجل كان يؤمن بفكر المؤسسات، فكيف لا يسعى إلى إنشاء مؤسسة تعتني بأمور طائفته بعد أن أثبتت التجربة القديمة فشلها؟ أقر مجلس النواب بالإجماع في جلسة 15 أغسطس 1967 قانون إنشاء المجلس، وصدقه رئيس الجمهورية بتاريخ 19 ديسمبر 1967، وبمقتضاه أُنشئ "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى" ليتولى شؤون الطائفة ويدافع عن حقوقها ويحافظ على مصالحها ويسهر على مؤسساتها ويعمل على رفع مستواها. ونص القانون المذكور على أن يكون لهذا المجلس رئيس يمثله ويمثل الطائفة ويتمتع بذات الحرمة والحقوق والامتيازات التي يتمتع بها رؤساء الأديان. فلم يكن الإنفصال عن السنة إنفصالا مذهبيا أو لأسباب عقائدية بل هي لأسباب تنظيمية فقط لا غير ومن باب الأسوة والعدالة.  

 

الشيعة قبل الصدر:

كان الشيعة قبل مجيء الإمام موزعين على حالات سياسية متعددة. منهم من ينتمي الى عائلات سياسية كآل الأسعد وآل الخليل ومنهم من إنتمى إلى الحركة الوطنية المدعومة من منظمة التحرير الفلسطينية. وقد كان الشباب الشيعي في طليعة هذه الأحزاب ومن نخبهم وأهمهم السيد المفكر الراحل هاني فحص وغيره. لكن نقطة الإلتباس هنا أنه هناك خلط بين الحالات الفردية والعمل الجماعي. لم يكن للشيعة قوة سياسية وازنة في الحياة السياسية اللبنانية كبقية الأحزاب على الرغم من حرص الإمام الصدر على جعل حركة المحرومين حركة عابرة للطوائف ولكنها تلبست في الطائفة الشيعية لكون أغلبيتهم محرومين. والسؤال: هؤلاء مع تقديرنا لجهودهم وعطاءاتهم، كيف يبررون حجم الحرمان الذي كان موجودا حينها؟ هنا نستثني من السؤال، السيد الراحل هاني فحص لأنه كان ينتقد الحرمان هو أيضا وله شهادة رائعة بالإمام الصدر وصلى خلفه في كفرشوبا وأراه الإمام الصدر بأم العين أولئك المحسوبين على الحركة الوطنية الذين كانوا يهاجمون الإمام في الإعلام وفي السر يأتون ليأكلوا على مائدته. هذه الواقعة حصلت في صور وحكاها ونقلها السيد هاني فحص بنفسه رحمه الله. إذا, كان إتجاه الصدر نحو إستثمار جماعي للقدرات على قاعدة عمل المؤسسات للنهوض والتنمية ورفع الحرمان وليس تخليا عن شعارات الحركة الوطنية أو أهدافها. وكان الإمام يغض نظره عن تصرفات بعض الذين ينتمون للحركة الوطنية إتجاه أهل الجنوب والتي اساءت للقضية الفلسطينية والتي من سوء عملهم وتصرفاتهم جعلت أهل الجنوب يرشون الأرز على الدبابات الإسرائيلية وقت الإجتياح للتخلص من تصرفاتهم ومنهم.  

 

العلاقة مع الشاه:

  في هذا الإطار، يكفي قراءة تقارير الإستخابرات الإيرانية حينها عندما لاحقت مصطفى شمران المسؤول التنظيمي الأول لأمل وأرادت إعتقاله وأمنه الإمام الصدر. الحادثة وقعت بعد مقتل علي شريعتي أكبر معارض ومنظر للإطاحة بالشاه وهو معلم الثورة كما سماه أحمد الخميني، فصلى الإمام الصدر على جثمانه في دمشق حيث دفن وأقام له الأربعين ببيروت فضغط حينها الشاه على كميل شمعون وزير الداخلية لإلقاء القبض على شمران ومنع المهرجان، فرفض الإمام الأمرين فرد الشاه بسحب الجنسية الإيرانية من الإمام الصدر ورد الإمام بإستقبال المزيد من المعارضين الإيرانيين والتبشير بالثورة في كبرى جرائد العالم وتوعد الشاه بسحب عرشه من تحت قدميه. يحكى عن لقاء جمع الشاه قبل هذه الواقعة، واللقاء غير مؤكد ولكن جميع الروايات المؤكدة وغير المؤكدة عن هذا اللقاء تحدثت عن وساطة قام بها الصدر من اجل الإفراج عن معارضين إيرانيين في سجون الشاه وليس لأمر آخر.

  أكبر عدو للشاه كان موسى الصدر، هو وزير خارجية الثورة وهو كاد أن يكون رئيس لجمهوريتها لولا غيابه كما توقع له السيد هاني فحص.

 

  حركة المحرومين:  

كانت أمل المحرومين حركة وطنية تعكس رغبات المحرومين. تجد هذه الأدبيات في الدروس الداخلية وفي ميثاقها الخالي من أي إشارة مذهبية. وقع على بيانها التأسيسي أكثر من 200 مفكر ومثقف أكثر من نصفهم مسيحيين وفي طليعتهم البطريرك خريش، غسان تويني، كريم بقردوني، ألبير مخيبر، بيار حلو وغيرهم.

لعل هؤلاء كانوا ممثلين بارعين أيضا في مسرحية الصدر!

 

لا يسأل عن ما جرى بعده:

بعد تغييبه، إنقلب وتغير الكثير من مفاهيم الصدر، ودخلت الحركة في أزقة وزواريب ما كان يجب أن تدخل بها.

لكن ما ذنب الإمام الصدر؟

لا يسأل الإمام عن ما جرى بعده!

ولا تظلموا موسى الصدر مرتين.