اختبار سياسي وفرته الانتخابات البلدية التي جرت على أربع مراحل خلال الشهر الماضي في لبنان، فهذه الانتخابات هي الاستحقاق الديمقراطي الأوّل منذ انطلاقة الثورة السورية في العام 2011، لا سيّما أنّ لبنان يعيشُ حالة تمديد لمجلس النواب منذ العام 2013، وهو يعاني من فراغ في رأس الدولة بسبب تعنت بعض القوى السياسية من خلال مقاطعتها لأكثر من 40 جلسة انتخاب تمّت الدعوة إليها منذ أبريل عام 2014.

من هنا اتخذت الانتخابات البلدية أبعادا مختلفة في لبنان، وشكّلت عنصر اختبار لمدى التحولات التي طالت المجتمع اللبناني، رغم حدة الاصطفاف الطائفي والمذهبي، فيما أظهرت الانتخابات البلدية أن ثمة رسائل عدة أطلقها المجتمع سواء داخل البيئة السنية تجاه القيادات السنية ولا سيما تيار المستقبل، فيما ظهرت في البيئة الشيعية ظاهرة اعتراضية عبر عنها المستقلون، الذين نجحوا في إظهار أن نحو 40 في المئة من المقترعين يرفضون التحالف الإقليمي المفروض عليهم في المجالس المحلية من خلال تحالف حزب الله وحركة أمل.

بينما أظهرت الساحة المسيحية أنها الأقدر على رفض الزعامة الأحادية، والأقدر على مواجهة نزعة المصادرة التي مثلها هذه المرة تحالف التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية.

لقد أظهرت الانتخابات المحلية أيضا رغبة اللبنانيين عموما في احترام الاستحقاق الانتخابي، وأظهرت إلى حد بعيد أنّ اللبنانيين يتمسكون بالديمقراطية ولو كانت هذه العملية مشوبة بنواقص تتصل بتلاشي هيبة الدولة ومؤسساتها أمام سطوة بعض القوى الحزبية المسلّحة. ذلك لم يقلّل من شأن الانتخابات البلدية التي أعطت الناخب فرصة التعبير وتحديد الخيارات على المستوى المحلي.

الانتخابات البلدية في الجنوب والبقاع (مركز ثقل حزب الله وحركة أمل الشيعييين) عموما تداخلت فيها عناصر عدّة، منها الطائفي والعائلي والمالي، فيما بدا العنوان التنموي حاضرا بخجل شديد وبتفاوت بين البلدات. في الدائرة الشيعية لم نلحظ وجود عناوين إنمائية، لا سيّما لدى حزب الله وحركة أمل. فالطرفان يتحكمان بمعظم المجالس البلدية منذ العام 1998 إمّا بشكل منفرد، أو بالتحالف الشامل المستمر منذ العام 2010.

يشكل العنوان السياسي العنصر الأوّل في لجم العملية الديمقراطية بمعركة المجالس البلدية. والدليل تحالف المال والسلطة والسلاح الذي يمثله ثنائي أمل – حزب الله. وهو الوسيلة الأشرس لمنع أيّ منافسة ديمقراطية تتيح الحدّ الأدنى من المساواة في فرص المرشحين، أو في تشكيل اللوائح، وصولا حتى إلى منع تحقق حيادية أجهزة الدولة التي طالما تكون تحت إدارة الطرفين في مناطق نفوذهما.

وتشهد معظم البلدات الجنوبية والبقاعية كيف تستمر عملية الضغوط بشكل متصاعد منذ فتح أبواب الترشيح وصولا إلى عشية الانتخابات البلدية، بوجه كل من يتصدى للترشح من خارج الثنائية الشيعية. تبدأ الضغوط من خلال توجيه رسالة معلنة بأنّ الوقوف في وجه تحالف الثنائية في البلديات هو إهانة لدماء الشهداء، ومؤامرة على الطائفة، ومحاولة اختراق “ولو من غير قصد” لبنية المقاومة وللحضور الشيعي المتنامي في لبنان والمنطقة.

هذا التهويل المستند إلى العصبية المذهبية وإلى نظام المصالح العام والخاص، يجعل أيّ طامح إلى المشاركة في العملية الإنمائية في بلدتـه، أمام معادلة كونية تفرض عليه من إيران إلى لبنـان. ويجد نفسه إزاء خيار إمّا أنّ يكون مصطفـا خلف الثنائية أملا ببعض الفوائد الشخصية التي تعرض عليه أو تفاديا لضرر، وإمّا أن يقف في وجه هذه المعـادلة وتحمل تبعـات هذا الموقف في التالي من الأيام، وفي أبسط حقوقه.

في البيئة السنية أبرزت انتخابات مدينة طرابلس، العاصمة الثانية في لبنان، أنّ ثمّة غضبا في مدينة طرابلس من قيادات المدينة وزعمائها. حالة الغضب ظهرت على مستويين في الانتخابات البلدية؛ على مستوى نسبة الاقتراع التي لم تتجاوز الـ27 في المئة، وفي التصويت المفاجئ للائحة “قرار طرابلس” التي يتبناها الوزير أشرف ريفي الذي خاض الانتخابات في مواجهة لائحة “لطرابلس” التي تحظى بدعم كل من الرئيسين سعد الحريري ونجيب ميقاتي ونواب المدينة وآل كرامي وغيرهم.

لا يمكن النظر إلى فوز لائحة قرار طرابلس إلا باعتبـاره تعبيرا عن حالة استياء تجاه السلوك الإنمائي والسياسي لزعامات المدينة تجاه مدينتهم. فطرابلس المنكوبة إنمائيا واقتصاديا مجمعة على أنّ المجلس البلدي فشل في السنوات الست الماضية بتقديم شيء يعتد به في المدينة. علما أنّ التحـالف الـذي حضن المجلس البلدي السابق هو من احتضن لائحة “لطرابلس” التي فشلت في الانتخابات ونجحت في إيصال ثمانية أعضاء من أصل 24 عضوا فقط، وفق ما خلصت إليه عمليات الفرز.

انتخابات طرابلس هي أيضا في هذا السياق رسالة تهديد لحزب الله، إذ يجب ملاحظة أنّ الموقف الضدّ من حزب الله كان العنوان الأقوى الذي زاد من استقطاب اللواء ريفي، فالمزاج الطرابلسي لم يزل في حالة حرب مع النظام السوري، وفي حالة مواجهة مع حزب الله الذي يخوض حربا دفاعية عن هذا النظام، وهو دفع ثمن هذا التوتر في مدينة طرابلس في السنوات الأخيرة، وبالتالي في خضم المواجهة في سوريا ومع استمرار قتال حزب الله في سوريا من دون إظهار أيّ استعداد للعودة، بدا أنّ المزاج السني يقول إنّه من المبكر الحديث عن مصالحات ما دام الطرف الآخر مصرا على قرع طبول الحرب.

مجددا هي رسالة تهديد لحزب الله، فالكتلة المعترضة والمكتسحة في انتخابات طرابلس لا تتسم بطابع ديني أصولي أو سلفي أو جهادي، بل هي ذات سمة مدنية وهنا تكمن الدلالة التي يفترض أن تُقلق حزب الله، فهذا الجمهور المديني باتت نقطة استقطـابه من يدعو إلى رفـض المساومـات مع حزب الله أو تقديم التنـازلات لـه. وبالتالي فإنّ ما يمكن قراءته سياسيا أنّ المدينة انحازت إلى عقلية المواجهة. فقيادة المستقبل المستعجلة لإنجاز تسوية مع حزب الله، بدت لجمهورها أنها بالغت في التنازلات، فيما الطرف الآخر زاد في التمنع وفي الابتزاز والتعطيل، لقد تم ترشيح سليمان فرنجية وتمّت التضحية بـ14 آذار، والحكومة التي تنسب إلى تيار المستقبل قياسا إلى حكومة الرئيس ميقاتي، هي إلى المزيد من العجز والترهّل وإلى المزيد من ترسيخ المحاصصة بين أقطابها، وهي الحكومة التي قدّمت الغطاء عمليا لقتال حزب الله في سوريا، ولم تستطع أن تحقق مكسبا في المقابل، سوى فتح الشهيات على المزيد من الغرق في المحاصصة وتعميق الأزمات.

لنبدأ من أنّه يمكن ملاحظة أنّ الأحزاب السياسية الكبرى، الممثلة في الحكومة والبرلمان، لم تخرج من الانتخابات بانتصارات جدية، بل يمكن القول إنّ الخسائر كانت أكثر من الأرباح. لا ينطلق حساب الأرباح والخسائر هنا من لعبة الأرقام وعدد الفائزين، بل من معطى آخر أكثر عمقا. فهذه الأحزاب وقعت في فخ المواجهة مع من تعتبرهم محازبيها أو جمهورها. ليس خافيا أنّ النزعة المذهبية والطائفية التي غذّتها هذه الأحزاب لدى اللبنانيين أوقعتها في وهم أنّها تمثل أكثرية طائفتها أو مذهبها.

بعد الانتخابات البلدية غير ما قبلها. المجتمع وجّه رسالة اعتراض ضد سطوة الأحزاب وبأشكال متفاوتة وبمعانٍ مختلفة، بين منطقة وأخرى وبين طائفة وأخرى. رسالة كافية لتعيد هذه الأحزاب النظر في علاقتهـا مع الجمهـور، الـ“لا” كـانت أقـوى مـن الـ”نعم” في وجه الأحزاب. والموقف المستند إلى بعد تنموي وديمقـراطي هو الذي جمع بين المعترضين وليس العنوان أو الإطار السياسي. الـ“لا” كانت تعبيرا عن موقف يتصل ببعد مدني له علاقة بشروط الحياة اليومية ومصالح الناس في الشأن البلدي.

 

العرب: علي الامين