تمهيد:

سبق لي أن نشرتُ مقالة حول هذا الموضوع في جريدة السفير عام ١٩٩٩ في العدد رقم ٨٢٠٣ ص ١٩. وأرى اليوم، مع استمرار معضلة تعيين أول أيام شهر رمضان، وكل شهر، فائدة في إعادة نشرها، والله المستعانُ على ذلك.

أولاً: اجتهاد السيد فضل الله..

أثارت قضية إثبات هلال شهر رمضان المبارك عند المسلمين إرباكاً حقيقيا في العالم الإسلامي، وقد كانت للسيد محمد حسين فضل الله مكانة خاصة في الجدال الفقهي الحاصل حول هذه المسألة الهامة، ويتلخص اجتهاد السيد فضل الله بالدعوة إلى الاعتماد الكلي في ثبوت هلال شهر رمضان على الأرصدة الفلكية المتطورة، باعتبار علم الفلك علما راسخاً لا تشوبه شائبة في عصر غزو الفضاء والوصول إلى المريخ،ناهيك عن الثورات المتتالية في علم الاتصالات المعتمد بمعظمه على الطفرات التكنولوجية المستندة إلى علم الفلك الواعد بسيطرة هامة للإنسان على جزءٍ هام من الفضاء الخارجي.

ويستند السيد فضل الله على قراءة خاصة للآية الكريمة: واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

وقد شرح السيد الآية بأنّها دعوة للعودة إلى أهل الخبرة والدراية والمعرفة الدقيقة المتخصصة،وبما أنّ العلم مُسخّر من قبل الله للإنسان، فعليه أن يعتمد عليه في أموره الدينية والدنيوية معا، وهذا امرٌ مندوب إليه، لأنّ العلم لا يأتيه الباطلُ من قدّامه أو خلفه، بعكس السحر والتنجيم والرجم بالغيب ،والاعتماد على المحسوسات والعقليات التي تشوبها شوائب عدة لا مجال لتفصيلها هنا.

ثانيا: المواجهة بين التقليد والاجتهاد..

السؤال المطروح بحدة هو: هل يفتح السيد فضل الله معركة لا يُستهان بحجمها وأثرها ،عنوانُها المواجهة المفروضة بين هجوم الحداثة الفكرية والعلمية والابستمولوجية من جهة، وبين منظومات التقليد والتتريث في الجهة المقابلة، وذلك في ما يخص كل جوانب الحياة من لغة ومؤسسات وسلوك و"قيم" وثقافة وتعليم.

وبالتالي هل يمكن للسيد أن يتقدم خطوات ،كما فعل في أكثر من مضمار، لنفض الغبار عن كثير من العقائد التي تجمّدت في صيغها الدوغمائية والمتصلبة منذ أن توقّف التفكير اللاهوتي أو "علم الكلام" منذ لحظة الأشعري (٩٣٥م) أو الماتريدي (٩٤٥م) ،أو في أحسن الأحوال مع الايجي (١٣٥٥م) في ما يخص الجهة السنية، أمّا في ما يخص الشيعة، فقد توقّف هذا التفكير مع أبي جعفر الطوسي(١٠١٨م) أو مع الحلّي (١٣٢٦م) ،أي منذ أكثر من ستة قرون.

وقد أصاب هذا الجمود والتقلص ظاهرة التعددية العقائدية التي سادت في العصر الإسلامي الكلاسيكي، عصر الازدهار والإبداع الذي بلغ ذروته في القرنين الثالث والرابع للهجرة، لذا فنحن نعيش منذ قرون في حمأة التكرار والاجترار، فقد تمّ حذف الفلسفة والعلوم( بالمعنى الخالص والتجريبي لكلمة علم) ، وأصبحت الفلسفة مرادفة للهرطقة أو الزندقة " من تمنطق فقد تزندق".

وانتعشت العقائد العتيقة السابقة على الإسلام، وقوي الدين الشعبي كثيرا، وإسلام اليوم هو استمرار مباشر لاسلام عصر الانحطاط بعد القطيعة الكبرى لقرون عديدة.

ويتحدث محمد أركون عن قطيعتين يعاني منهما العالم العربي والإسلامي: قطيعة مع الفترة المبدعة من التراث العربي والإسلامي، وقطيعة مع أفضل ما أنتجته الحداثة الأوروبية منذ أربعة قرون.

وكان من الطبيعي أن يُصاب الاجتهاد الذي ساد في العصر الكلاسيكي باعطاب عديدة. وهكذا تدخل قضايا كثيرة من قضايا المسلمين الهامة في دوائر مُسيّجة ومجمدة ، وتُلقى خارج الزمان والمكان والبحث العلمي والاستفادة التقنية بحجّة الحفاظ على""المقدّس" من أن تصيبه رياح التغيير والتطوير ومدّه بأسباب الحياة، وهذا كله يساهم في تأبيد مفهوم عن الإسلام يسمه بسمة الجمود والتعطيل.

أو كما يحلو للمستشرق" رينان" أن يصوره بأنّه في "جوهره" معادٍ للفلسفة والعلوم، ومضاد للتطوير والتغيير، وهذا ما بدا أنّ السيد فضل الله يناضل ضده.

ثالثاً:

الدعوة للتسامح والابتعاد عن التكفير.. تمسّك السيد بموقفه المبدأي، واعتبره حق لا تنازل عنه، إلاّ أنّه أعذر من أفطر بناءً على شهادة الشهود، وكذلك من اتكل على أرصدة علماء الفلك، وقال بأنّ ذلك ليس مدعاة للخصومة والعداوة ( واستطرادا لا يستوجب سفك الدماء)، لا بل دعا إلى اعتبار الخلاف مدعاة للرحمة لا النقمة، وتمسّك بحقه في الاجتهاد، دون أن يعني ذلك حقاً له أو لغيره برمي الناس في دائرة التكفير والخروج من الدين والملّة، وذهب إلى تفضيل الاجتهاد والأخذ بأحسنه، وضرب مثالا على ذلك، اجتهاد الإمام الخميني بنجاسة أهل الكتاب، ومخالفة الإمام الخامنئي لذلك وقوله بطهارتهم ، ومعروف أنّ السيد فضل الله ذهب إلى أبعد من ذلك، فاجتهد بأنّ الإنسان طاهر بذاته دون النظر إلى دينه أو عرقه.

حاول السيد أن يضمن للعقائد والفكر مزيدا من العقلانية والحداثة العلمية والتقنية في سبيل الوصول إلى سيطرة أفضل لنا على منتوجاتنا المعرفية وسلوكياتنا العقائدية، وهذا بحاجة إلى جرأة أدبية وعلمية لفتح ثغرةفي جدار الحالة الجامدة والمتصلب التي نعيش بين قضبانها اليوم.

وأن الدعوة إلى تعددية التفسيرات والتأويلات والمناقشات هي التي ستؤدي في نهاية المطاف  إلى إجبارنا على القيام بمراجعة جذرية لكل ما خلع المشروعية حتى الآن على الفتاوى اللاهوتية وانظمتها السائدة، وهذا قد يساعد على زحزحة كثير من للعقائد الجامدة والجاثمة على صدور الناس، ممّا يعيقهم عن تكوين رؤية إنسانية طموحة ،وفهم جديد للدين وأصوله ونشأته، ووظائفه، أنّها معركة شريفة يفتتحها السيد فضل الله منذ أمد قصير، وهي جديرة بالدعم والتأييد، إنّها ليست مسألة يوم مُتقدّم أو مُتاخّر، وليست وهمية أو زائفة، أنّها معركة التجديد الحقيقي،، وقد فاز السيد بأولى جولاتها عندما أفضى على خطابه الهدوء والرضا والتسامح، مع التمسك بالمسؤولية والجرأة في الدفاع عن حقّه في المخالفة، وهي ليست معركة إيديولوجية فارغة من مضمونها، كما حاول الشيخ يوسف القرضاوي أن يُصوّرها،حين دعا إلى التعالي أو التجاوز باسم "وحدة المسلمين".

إنّها مسألة الاطمئنان إلى عقولنا السليمة، والتي هي خير ضامن لمبادئنا الدينية والدنيوية من أن تصيبها اعطاب خطيرة،والسلام على من اتبع الهدى.