تبتعد الذكرى، فتزداد مشقة العثور على صاحبها في الراهن الذي لم يفقد صلته بعد بذلك الاسم العلَم في مشرق عربي كان مضطرباً قبل عشر سنوات، فصار ملتهباً.

سمير قصير الذي إغتيل في مثل هذا اليوم من العام 2005 ، إختزال لحقبة كاملة من تاريخ المشرق العربي. الهوية الشخصية الجامعة لثلاث هويات رئيسية، لبنانية فلسطينية سورية، كانت كافية لإعلانه شهيد لبنان الأول، من خارج الشريحة السياسية المستهدفة يومها، وشهيد فلسطين الأخير الذي يسقط على أرض لبنان، وشهيد سوريا الأول الذي يسقط خارج أرضها التي كانت يومها تزرع بذور ربيع لم تدركه بعد.

تلك الهوية الثلاثية، كانت مصدر غنى وتنوع نادر، يحسب للبنان ويضاف الى رصيد فلسطين، لكنها كانت تحمل همّاً سورياً خاصاً، ومسؤولية تكاد تكون مباشرة في موسم ربيعها الاول، في إعلان دمشق الشهير، الذي أُجهض في بيروت قبل ان يُمزق في دمشق.. حتى أصبح أثراً بعد عين، تذروه رياح ثورة ما زالت تحبو وتحاول الوقوف على قدميها، برغم مرور خمس سنوات على انطلاقتها.

لم تكن تلك المسؤولية شبه المباشرة عن المقدمات الاولى للثورة السورية، عبثاً أو ثأراً، او تصفية لحساب يساري، لبناني وفلسطيني، قديم مع النظام السوري، بل كان نتيجة تحليل واقعي بسيط  مفاده ان ذاك النظام هو عقدة المشرق العربي وعلّته الرئيسية، فاذا تغير او حتى تطور، فان اللبنانيين والفلسطينيين سيكونون شركاء ومستفيدين مباشرين من التغيير، وعندها سيسقط النظام اللبناني تلقائياً، ويتطور النظام الفلسطيني لاحقاً.

لكن ذلك النظام كان أسرع وأشرس مما توقع الجميع، حتى من اولئك الرعاة والهواة الذين ترقبوا عملية إصلاح سياسي تنقل سوريا من عقود الاستبداد الى مشارف الحداثة، وتفتح آفاق الارتقاء بلبنان من الجاهلية الطائفية الى الواقعية السياسية، والانتقال بفلسطين من النفي الابدي الى التوحد والتوسع الكفاحي.

سقط  كثيرون، تحت وطأة ذلك الحلم التاريخي بأن تتغير سوريا. كان سمير قصير من الاوائل. وما زالت قافلة الشهداء تكبر يوما بعد يوم، حتى أصبح المعدل اليومي للملتحقين بها يبلغ نحو مئة شهيد سوري، بعدما كان الرقم اللبناني الاول لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، عدا الضربات الاستثنائية الخاصة، حيث كان الاغتيال يأتي في شكل مذبحة تودي بالعشرات، كما مع الراحل رفيق الحريري.

تساقط الحلم حتى صار اليوم، في الذكرى الحادية عشرة، منفصلاً تماماً عن الواقع السوري. الحالمون الاوائل، قُتلوا او جُرحوا او اُعتقلوا، لكن غالبيتهم شُرّدت في مختلف أنحاء الارض، ولم يبق منهم سوى مقاومين على الاسلوب اللبناني والنمط الفلسطيني. وباتت شعاراتهم وبرامجهم تستمد لغتها ومفرداتها من التجربتين اللبنانية والفلسطينية، اللتين لا يمكن ان تكونا نموذجاً او مثالاً.

دينامية الصراع السوري المستمر منذ العام 2005، والذي كان سمير قصير من أول ضحاياه، أطلقت رموزاً وأنتجت وقائع تفوق بوحشيتها تلك التي انتجتها الحروب الاهلية اللبنانية او الفلسطينية. ما زال النظام يتقدم بسرعة في المنافسة مع أعتى الدكتاتوريات العربية والعالمية. وما زالت الحواضر السورية الخارجة عن سيطرته تسفر عن وجوه بربرية تبز بأساليبها وأدواتها، الظواهر الارهابية الاولى التي انطلقت من العالم العربي-الاسلامي في مراحل التواطوء الاول مع الغرب، لا سيما "القاعدة" الذي يمكن إعتباره اليوم تنظيماً علمانيا او حزباً مدنياً بالمقارنة مع تنظيمي "داعش" او "النصرة".

أما البقية، أي الغالبية السورية، فإن العثور عليها بات يحتاج الى جهد إستثنائي: لا هي حركة تحرر واحدة موحدة، لا في سياقها السياسي ولا في إطارها العسكري، ولا هي منظمة وطنية تطالب بحق العودة الى وطن ليس فيه إستبداد ولا إرهاب، أو على الاقل تعمل من أجل تنظيم الشتات وتحويله الى جماعة للضغط والتأثير على الدول والحكومات المضيفة.

ما زال النظام قوياً، بنفسه وبحلفائه، وما زال خصومه، في سوريا ولبنان، مشتتين مشردين. لكن الحلم لم يضعف.. وكذلك الذكرى.