تمهيد: دخل الشهيد رفيق الحريري المعترك السياسي في لبنان أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، فدشّن عصر خدمات لم يسبق أن شهد لبنان مثيلا له من قبل، ولعل أبرز إنجازاته في حينها كانت إيفاد عدد كبير من الطلاب للدراسة في الخارج، فضلا عن الذين نالوا منحا دراسية في الداخل. ثم ما لبث أن نشط في التحضير لأعمال مؤتمر الطائف الذي انتهى بوضع اتفاق الطائف، وصياغة وثيقته التي ترعى انتظام الحياة السياسية في لبنان بعد إنهاء الحرب الأهلية.

أولاً: التسعينات والاندفاعة الحريرية..

دخل الشهيد الحريري الحياة السياسية بعد البدء بتنفيذ اتفاق الطائف من بابها الواسع، فتقلد منصب رئيس الوزراء، بدعم من بعض أركان الوصاية السورية، وتأييد خليجي واضح، واستغل الصلاحيات الممنوحة لرئيس الوزراء على حساب موقع رئاسة الجمهورية، ليصبح رجل البلاد الأول، فاغدق الأموال والهدايا على قادة الميليشيات السابقة،تارة من جيبه ،وطورا من خزانة الدولة، ودشّن ورشة إعمار كانت ضرورية ومُلحّة بعد ركام الحرب الأهلية، وأُخذ عليه أنّه فتح أبواب الاستدانة على مصاريعها كافة، فتصاعدت وتيرة الفساد وزاد في غُلوّها عامل الوصاية السوري. إلاّ أنّ ما شهده لبنان في عهد الاندفاعة الحريرية الأولى، يعد في خانة إنجازات الحريري الكبرى والهامة، وخاصة في مجال الإعمار، وإعادة تأهيل المنشآت العامة وبناء مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، إلاّ أنّ الاستدانة كانت سلاحا ذو حدّين، وللأسف فإنّ حدّ الهدر والفساد كاد أن يبتلع حدّ الإنجازات العمرانية.

ظلّت الفترة الممتدة من العام ١٩٩٢ وحتى بدء ولاية الرئيس لحود، هي الفترة الذهبية لصعود الحريرية، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وشعبيا، فتمكن بفضل الكاريزما الشخصية والسياسية التي يمتلكها من فعل معجزات في فترة محدودة لا تتعدى عشر سنوات، إذ أصبح صاحب أكبر كتلة برلمانية، ويدور في فلكه عدد لا بأس به من الوزراء ورجالات المال والأعمال، وأهل الصحافة والإعلام، واستطاع نسج علاقات دولية ممتازة ،عربيا واجنبيا، استطاع توظيفها لخدمة الإعمار والبناء.

ثانيا: الاستشهاد وسعد الحريري خلف والده..

قضى الرئيس الحريري غيلةً، في حادث تفجير إرهابي، روّع لبنان والمنطقة بأسرها، وتسبّب غيابه باخطر مرحلة عرفها لبنان في عصره الحديث، وأخذت مسألة تأليف محكمة دولية خاصة لمحاكمة قتلته حيّزا كبيرا في الحياة السياسية اللبنانية. إلاّ أنّ ما يعنينا هنا أنّ سعد الحريري ورث الحياة السياسية لوالده ، وتمكن من قيادة تيار المستقبل ،والذي تركه والده وهو في عزّ صعوده وألقه، حتى استطاع تقلد منصب رئاسة الوزراء شخصياً عام ٢٠٠٨ بعد اتفاق الدوحة الذي سهّل وصول العماد ميشال سليمان إلى رئاسة الجمهورية، وكانت هذه من أصعب مراحل الحياة السياسية لشابٍ يتدرج في منعرجاتها، فقد اضطر تحت ضغط الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز إلى زيارة سوريا، ومقابلة بشار الأسد، والمعتبر دائما أحد المدبرين لحادثة الاغتيال، وذهبت جهود الملك عبدالله هباءً عندما تمت الإطاحة بالحريري على يد الحليفين عون ونصرالله، وبمساعدة ومؤازرة ميقاتي وجنبلاط، المحبط دائما بعد أحداث السابع من أيار عام ٢٠٠٧.

ثالثاً: الحريرية على مشارف الأفول..

شكّل غياب سعد الحريري المتمادي عن لبنان لمدة تقارب الخمس سنوات إحباطاً عاما في صفوف تيار المستقبل، وزادت الأزمة المالية له الأوضاع سوءاً على سوء، وأحجم الراعي السعودي عن التضحية بالمال اللازم لدفع حركة الاعتراض على الوجود الإيراني قُدُماً، في حين بذلت إيران الغالي والرخيص في سبيل تدعيم وجودها في بلاد الشام، وذلك رغم العقوبات التي كانت تفرضها الدول الغربية، وهكذا استقرّت المعادلة: بذخ إيراني وتقتير سعودي. أمّا الأمور التنظيمية والسياسية فقد تركها الحريري بين أيدي هواة، يتلاعب بهم المخضرمون من أمثال بري وجنبلاط وعون ونصرالله، أمّا المخضرمون أتباع الحريري(السنيورة مثلا) فقد ألهتهم التجارة والصّفقُ في الأسواق وجنى الثروات( وهذه تلهي عن ذكر الله) عن الاهتمام بمصالح العباد، ولعلّ طاولة الحوار الثنائي مع حزب الله،هي خير دليل على عقم السياسة "المستقبلية" وعقم أصحابها، حتى خرج أخيرا، رجلٌ من بين ظهرانيهم ،يرفع الصوت بالاعتراض، فيكتسح بلدية طرابلس بوجه عتاة المال والسلطة، في حين أنّ الحريري لم يتجرّأ إلاّ على من تجرّأ وحاول الإصلاح.

أدعو ريفي مرة أخرى إلى التّخفف من أثقال الحريرية، فالدولة بحاجة إلى رجال يحسنون قيادة أمورها، وكذلك الطائفة السّنية الكريمة، فهي بحاجة إلى رجال مستقبل واعدين يحسنون إدارة شؤونها، فقد كانت وما زالت أحد أهم أعمدة لبنان القديم والحديث، هذا بانتظار زوال الطائفية من النصوص والنفوس.