لا مجال للربط بين مفاجأة إنتصار اللواء أشرف ريفي في معركة إنتخابات بلدية طرابلس، وبين مفاجأة فوز لائحة "بيروت مدينتي" ب40  بالمئة من أصوات العاصمة، مع ان ثمة أوجه شبهٍ متعددة، وثمة حججاً متنوعة للمقارنة، ولأستخلاص العبر من تلك التجربة الانتخابية التي خاضتها مختلف الطوائف والقوى السياسية والمدنية والعائلية اللبنانية

 لا شك ان المفاجأة الختامية التي قدمتها عاصمة الشمال أكسبت الانتخابات البلدية المزيد من المصداقية ومن الشرعية التي إفتقدتها في محافظات أخرى، وأعطت فكرة دقيقة الى حد بعيد عن حالات الاستعصاء التي يسجلها الناخبون اللبنانيون من مختلف الطوائف والمناطق تجاه ممثليهم في السلطة السياسية او الدينية.                             

بديهي القول ان الانتخابات بحد ذاتها كانت إنجازاً وطنياً، باعتبارها بديلاً من التمديد الذي كانت قوى السلطة كلها من دون استثناء تتمناه وتعمل له، او مخرجاً من الفراغ الذي لم تكن تمانع حصوله.. لكنها سلّمت في النهاية بالحاجة للخضوع الى هذا الامتحان الشعبي تحت ضغط الشارع، المدني بشكل خاص، الذي أضاف الى رصيده السياسي المتكون حديثاً ما يؤهله ليصبح جماعة مؤثرة في توجيه الحياة السياسية اللبنانية، وإخراجها من المأزق الراهن.

ثمة ما يمكن ان يسمى "المؤشر المدني"، اذا جاز التعبير، وهو يستحق ان يضاف الى القاموس السياسي اللبناني المحدود. ويجوز إعتماده كمقياس لتحدي الطبقة السياسية التقليدية ورموزها وأدواتها من قبل التيار المدني، سواء على المستوى الوطني العام او داخل كل طائفة او مذهب.

وبناء على هذا المؤشر يمكن الاستنتاج بسهولة ان معدلات التحدي للقوى التقليدية تفاوتت بين طائفة واخرى، فكانت الاختراقات للوائح السلطة الائتلافية واسعة في البيئة السنية ومتواضعة في البيئة المسيحية، ومحدودة في البيئة الشيعية وشبه معدومة في البيئة الدرزية.

لكنها كانت التجربة الانتخابية الاولى بعد سنوات من القحط السياسي، ومن الاضطراب الطائفي والمذهبي اللبناني الذي انتجته الحرب السورية وغيرها من الحروب الاهلية العربية، التي إصطدم بها الربيع العربي وسحقت طلائعه الاولى تحت وطأة أشرس أنواع المواجهة بين الانظمة الدكتاتورية وبين خصومها الاسلاميين.

من المبالغة القول ان تجربة الانتخابات البلدية، كانت بمثابة إلتحاق لبناني متأخر بذلك الربيع. لكن المؤكد انها عبرت بأشكال مختلفة، في صناديق الاقتراع وخارجها، عن توق شعبي عميق الى عملية تغيير سياسي، يشبه ذاك الذي شعر به التونسيون والمصريون والسوريون واليمنيون في الايام الاولى من ربيعهم الذي أُحبط من قبل القوى المضادة للتغيير، العسكرية منها والارهابية، او ما زال يكافح من أجل صون مساره السلمي، كما هو الحال في تونس التي سجلت الاسبوع الماضي إنجازاً متقدماً عندما فصل أسلاميوها بين عقيدتهم ودولتهم.

ليس من قبيل الصدفة ان تكون البيئة السنية اللبنانية الاقرب الى ذلك الربيع هي التي تحمست أكثر من سواها من البيئات اللبنانية للانتخابات البلدية، وهي التي عبرت عن حماستها للتغيير، وخاضت مواجهة فعلية في بيروت وطرابلس، فحققت في العاصمة الاولى إختراقاً مهماً للوعي وللتقليد، وأنجزت في العاصمة الثانية نصراً مهماً، يؤسس لظهور زعامة سياسية جديدة، وكتلة شعبية استثنائية فعلاً، رفضت الإغراءات التي عرضها تحالف سياسي تقليدي يزيد حجم ثروته المالية على سبعة مليارات دولار، وكان يود الاحتفاظ بهيمنته على المدينة الأفقر في لبنان والأقل إستفادة من مشاريع التنمية.

لا يشكل الزعيم الطرابلسي الجديد أشرف ريفي والكتلة الشعبية التي منحته الزعامة حالة مدنية مشابهة لظاهرة "بيروت مدينتي". الأصح انها حالة اجتماعية اقتصادية تبحث عن هويتها وعن دورها وعن جدول أعمالها. والأهم انها لم تنتظم في مسجد، ولم تلتزم بمؤسسة دينية، ولم تمشِ خلف رجل معمم.. بخلاف ما كان ولا يزال يتوقع المسيحيون والشيعة، الكارهون، جينياً، للربيع العربي، والذين لا يزالون يعتبرونه مؤامرة غربية-صهيونية- تكفيرية، هدفها النيل من الاقليات.

نتائج المعركة الطرابلسية وقبلها البيروتية، تعكس بلا أدنى شك حالة القلق التي تعيشها البيئة السنية في لبنان، كما في العالم العربي، والتي تثير خوفا مسيحياً وشيعياً لم يسبق له مثيل.. برغم انها تمثل حالة صحية، لن تحجبها وحشية الاستبداد ولا بربرية الارهاب.