يتنافس تحالفان على الزحف نحو مدينة الرقة السورية، معقل تنظيم "داعش" وعاصمته الإدارية، فمن جنوب غرب المدينة يتقدم الجيش السوري بغطاءٍ جوي روسي، فيما يتقدم التحالف الكردي المدعوم بغطاءٍ جوي أميركي من جهة الشمال.

 

ويتسابق كلا التحالفين إلى "تحرير" المدينة تماماً مثلما تسابقت في الماضي قوات الحلفاء والقوات السوفييتية في الزحف نحو برلين عام 1945، حسب تقرير نشره موقع سي إن إن الأميركي.

يتزايد الضغط على تنظيم "داعش" ليس في الرقة وما حولها فحسب، بل كذلك في العراق حيث تُعمِل القوات العراقية والكردية جهدها في الانقضاض على أطراف مناطق النفوذ الداعشي شرق الموصل في شمالي العراق، وكذلك تحاصر مجموعات عراقية متعددة منها الجيش الحكومي مناطق داعش في الفلوجة بالقرب من بغداد.

هكذا وجد "داعش" نفسه محاصراً يتعرض للضرب على عدة جبهات، كما يعاني من نقص في خطوط الإمدادات لديه، فيما تتدهور أحوال المدنيين العالقين في كل تلك المناطق.

وفيما عدا أي سيناريو مفاجئ لسقوط "داعش"، فإن المعركة لتحرير الرقة ستكون طويلة النفس قد تمتد حتى عام 2017، يزيدها بطئاً فشل جميع أعداء داعش بالتعاون والتنسيق فيما بينهم.

لماذا الرقة؟

 

ليست هذه أول مرة في التاريخ يلمع اسم الرقة فيها على خارطة الحروب والسياسة، فالرقة (وتعني بالعربية المستنقع) كانت في نهاية القرن الثامن عاصمة خلافة هارون الرشيد التي امتدت إلى شمال أفريقيا والعراق وسوريا، فبموقعها على ضفاف نهر الفرات كانت الرقة تضاهي بغداد وتنافسها حجماً ومكانة ومركزاً للإشعاع العلمي والثقافي.

ثم تعرضت الرقة في الحروب التي مزقت المنطقة للتدمير على يد المغول عام 1265، وتابعت اضمحلالها حتى باتت مجرد مركز زراعي وصناعي في سوريا الحديثة.

وعندما وصل داعش إلى هناك في آب 2013 لم يكن تعداد سكان المدينة سوى 200 ألف نسمة أو يزيدون قليلاً.

تقريباً منذ بداية الحرب السورية والرقة تتعرض لاستهداف مجموعات الثوار المختلفة، وقد طرد "داعش" الجيش السوري الحر من المدينة وكذلك ألحق الهزيمة بمنافسيه من التنظيمات الإسلامية الأخرى أوائل عام 2014.

من بعدها أصبحت الرقة أهم مراكز سيطرة "داعش" في سوريا وأول محافظة يسيطر عليها، كما صارت هي المركز الإداري الذي يرسم منه داعش خططه وهجماته الإرهابية ضد أوروبا.

عمق استراتيجي

 

سيطرة داعش على الرقة منحتها كذلك عمقاً استراتيجياً أبعد من العراق، فقد تحولت إلى قبلة للمقاتلين. كذلك توجد شمال المدينة سدودٌ ضخمة مشيدة على ضفة الفرات لتوليد الطاقة الكهربائية المائية.

أما الطرقات فجيدة وتصل الرقة بالموصل (ثاني أكبر مدن العراق) ودير الزور، وهي مدينة سورية شرق الرقة تخضع بشكل كبير لنفوذ وسيطرة داعش.

الفرق المتنافسة

 

لا تريد الولايات المتحدة أن يسبقها الجيش السوري ولا حليفه الروسي إلى الرقة. في شهر نيسان 2016، قال نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية مارك تونر: "يصعب على الناس أن يتحرروا من داعش ليسقطوا مرة أخرى في قبضة نظام ارتكب الفظائع بحق شعبه".

أما نائب وزير الخارجية الروسي أوليغ سيرومولوتوف فقال أواخر آذار 2016، إن الولايات المتحدة وروسيا تتناقشان وتتفاوضان بشأن "نواحٍ معينة" لتنسيق تحرير المدينة بينهما، بيد أن المسؤولين الأميركيين ينفون تماماً أي مزاعم تعاون في الزحف نحو الرقة.

الجيش السوري أواخر آذار كان استعاد مدينة تدمر الأثرية التي تبعد 225 كم عن الرقة، غير أنه استدعى الكثير من المساعدة من المروحيات الروسية المقاتلة وأنظمة الصواريخ المتعددة؛ ولقي موظف عمليات خاصة روسي واحد مصرعه على الأقل فيما استغرقت عملية تفكيك مئات العبوات الناسفة المتروكة وراءه أياماً وأياماً.

من جهته تفاخر الجيش السوري بأن عملية استعادة الرقة ستكون منصة لشن وإطلاق عمليات عسكرية واسعة نحو محافظتي الرقة ودير الزور.

منذ ذلك الحين أحرز الجيش السوري تقدماً في البادية بيد أنه لم يظفر بمدن أو بلدات تذكر، فيما تعاني وحدات جيشه من الاستنزاف والإنهاك بعد 5 سنوات مضنية من الحرب، فلا طاقة بها لشن هجوم مباشر على عاصمة داعش.

الكرد

ولعل القوة الأقرب إلى مدينة الرقة هي قوات سوريا الديمقراطية، وهي تحالفٌ يضم ألافاً من القوات العربية والكردية، المدعومة أميركياً، ولا تبعد في بعد المناطق عن الرقة سوى 30 كم شمالاً، وتشن هجومها من 3 جبهات.

تتقدم قوات سوريا الديمقراطية عبر السهول الصحراوية مدعومة بالقصف الجوي من التحالف وبفريق قوات أميركية خاصة مؤلف من 250 عميلاً يتمركزون في شمال سوريا مهمتهم "تقديم المشورة والمساعدة".

وقد ظهر في الآونة الأخيرة مقطع فيديو يصور قواتهم تتعاون مع وحدات حماية الشعب الكردية وتركب معهم شاحنات مدججة بالرشاشات الثقيلة.

لكن القيادة الكردية لهجوم قوات سوريا الديمقراطية تقول أن الحملة الموجهة لتحرير "ريف شمال الرقة" تتباطأ بسبب كثرة العبوات الناسفة والألغام التي زرعها داعش.

القضية التركية

 

يمثل الكرد طليعة قوات سوريا الديمقراطية، ولكنهم لا يرغبون في استعادة المناطق التي يسكنها الكرد ويسدوا الطريق أمام تنظيم "داعش" لدخول الحدود مع تركيا وحسب، بل ولديهم أيضاً ميل نحو السيطرة على الرقة، وهي مدينة ذات أغلبية سكانية عربية.

بدلاً من ذلك، يحاول الكرد التركيز على ربط الجيوب الكردية التي تقع على الحدود مع تركيا، ما يخلق منطقة حكم ذاتي تُمكنهم من السيطرة على معظم الحدود السورية التركية، حيث تصير الأمور أكثر تعقيداً.

يعتبر الأتراك أن كرد سوريا إرهابيون، وقد حذروا الولايات المتحدة أنهم لن يتسامحوا في أي تمدد محتمل لوحدات حماية الشعب الكردية على الحدود. كما أنهم يشعرون بالغضب حيال دعم الولايات المتحدة للكرد.

وقد قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال عطلة الأسبوع "نُدين الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب الكردية، فما يحدث ليس ما وعدتنا به الولايات المتحدة".

وقد يتسبب رفض تركيا للدور الرئيسي الذي تلعبه وحدات حماية الشعب الكردية، وكذلك المجموعات المتناحرة بشمال سوريا، في زيادة صعوبة الموقف على المساحة الحدودية التي لا يزال تنظيم داعش يسيطر عليها، والتي تبلغ 62 ميلاً.

متى تسقط؟

 

رغم التقدم الذي حدث هذا العام نحو استعادة الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" في سوريا، يبدو أن ثمة خطورة أمام خوض الطرق التي تؤدي إلى معقل التنظيم. وقال عديد من المسؤولين الأميركيين إن ثمة احتمالاً بسيطاً لسقوط الرقة هذا العام.

فالتنظيم كان قد حصّن الضواحي المحيطة بالمدينة من خلال الأنفاق والخنادق وحقول الألغام والحواجز المتفجرة، كما تفوق أعداد المقاتلين الذين يدافعون عن المدينة بكثير أعداد المقاتلين في مدينتي تكريت والرمادي، وهما المدينتان اللتان فقد التنظيم سيطرته عليهما عام 2015.

وتوضح بعض التقديرات أن تنظيم داعش لايزال يمتلك 30 ألف مقاتل يدافعون عن الأراضي الرئيسية التي يسيطر عليها. غير أن جميعها تواجه ضغوطاً متزامنة على عديد من الجبهات، ولا يمكنه تدعيم المناطق الواقعة تحت التهديد.

- في الفلوجة، التي تقع بالقرب من بغداد، يقاتل التنظيم في محاولة أخيرة لكي يحتفظ بالأراضي التي سيطر عليها لأكثر من عامين، حيث يواجه هجوماً منسقاً تشنه القوات والميلشيات العراقية مدعومة بغطاء جوي أميركي.

ويُعتقد أن عدد المدنيين المحاصرين بالمدينة يصل إلى 50 ألف مواطن.

- وقد خسر التنظيم معظم الأراضي بمحافظة الأنبار التي تقع غرب العراق، فضلاً عن كثير من الأراضي الواقعة بامتداد وادي نهر الفرات بالعراق.

- وقد تمكنت هجمة كردية جديدة من السيطرة على عديد من القرى شرق الموصل، وذلك خلال الأيام القليلة الماضية (شهر أيار2016).

هل يستعيد زمام المبادرة؟

 

ومع هذا، لا يزال التنظيم قادراً على شن هجمات في محاولة لتشتيت أعدائه أو إجبارهم على تحويل خط السير الذي يتبعونه، فقد شنّ خلال الأيام القليلة الماضية هجوماً مفاجئاً بالقرب من الحدود التركية ليهدد بقطع خطوط الإمداد عن المجموعات المسلحة الأخرى.

كما نفذ هجوماً انتحارياً كبيراً داخل أراضي أعدائه. وخلال شهر نيسان 2016، نفذ التنظيم العديد من الهجمات الانتحارية في بغداد.

أضف إلى ذلك سبعة تفجيرات منسقة في طرطوس وجبلة بقلب المناطق التي يحكمها نظام الأسد، مما أدى إلى مقتل 100 شخص على الأقل، مما يزيد من حدة العداء الطائفي ويجعل الخصوم يحولون مواردهم نحو اتباع إستراتيجيات دفاعية.

ونتيجة لهذا الأعمال فإن تنظيم داعش يواجه الانتقاد الكلاسيكي بكونه تنظيماً إرهابياً متمرداً، حيث تستهدف تلك الحملة في الأساس المدنيين، فضلاً عن الهجمات المحدودة التي ينفّذها باعتبارها رد فعل.

ويتوقع بعض المحللين أن تزداد حدة ذلك النهج الذي يتبعه التنظيم خلال شهر حزيران 2016 في كل من سوريا والعراق مع قدوم شهر رمضان، مع احتمالية وقوع هجمات أخرى في أوروبا.

الخلافة تترنح

 

وللمرة الأولى يبدي أحد رموز التنظيم تصوره عن المرحلة القادمة من الحرب، فقد تحدث أبو محمد العدناني، المتحدث باسم التنظيم، في تسجيل صوتي نُشر خلال الآونة الأخيرة، عن احتمالية عدم قدرة التنظيم على ضمان بقاء الخلافة، كما أعاد تعريف معنى النصر والهزيمة.

وفي كلمته التي وجهها إلى "الصليبيين" على حد تعبيره، والتي نُشرت في 21 أيار 2016، قال العدناني "هل سنُهزم وتنتصرون إذا سيطرتم على الموصل أو سرت أو الرقة أو جميع المدن وعُدنا كما كنّا أول حال؟ كلاّ! إنّ الهزيمة فُقدان الإرادة والرّغبة في القتال".

كما دعا إلى شن هجمات ضد الأهداف سهلة المنال في أوروبا، داعياً المسلمين "اعلموا أن استهدافكم لما يُسمى بالمدنيّين أحبّ إلينا وأنجع، كونه أنكى بهم وأوجع لهم وأردَع".

كما يقيد التنظيم أيضاً حركة المدنيين الذي يعيشون بالمناطق التي يحكمها.

وفقاً لحملة "الرقة تذبح في صمت" التي أطلقها نشطاء من محافظة الرقة، عرض بعض الأهالي أن يدفعوا 400 دولار للمهربين لكي يساعدوهم على مغادرة المدنية. ولكن كما هو الحال في الفلوجة، لم تتمكن من الهرب سوى قلة من العائلات.

ويعاني عشرات الآلاف الذين ظلوا في مدينة الرقة من نقص في الكهرباء والمياه، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، حسبما نقل النشطاء.

على الأرجح عانى هؤلاء من المشقّة والخوف في ظل الحكم الموتور والذي لا يرحم لتنظيم "داعش". بالنسبة لمقاتلي تنظيم "داعش" في الرقة الذين يحاربون مثل وحدات "SS" النازية التي قاتلت الاتحاد السوفيتي على أنقاض برلين، فلا يوجد خيارٌ سوى الانسحاب أو الاستسلام.

(CNN - Huffington Post)