تمهيد : عندما وقعت جريمة قتل الشاب حسين الحجيري من قبل معروف حمية ،والد الشهيد العسكري محمد حمية، تريّثتُ في الكتابة عن هذه الجريمة، وكنت أُفضّل أن لا أكتب عنها ، لفضاعتها أولا، ولكثرة ما سال من حبر حولها استنكارا وتأييدا.

وأكثر ما تبادر إلى ذهني تساؤل مُحيّر: كيف لم يخطر ببال معروف حمية ، وهو يجرّ ضحيّته للذبح صورة ولده محمد الذي جرّه أعداء الإنسانية للذبح؟

أولاً:القتل بين قيم الجاهلية والإسلام.. كلما وقعت جريمة مماثلة، أو جرائم إبادة كاملة، تطوع البعض لنسبتها للجاهلية وتنزيه الإسلام، في حين أنّه قد مضى ما يقارب خمسة عشر قرنا على ظهور الإسلام، فمحمد حمية ذُبح في ظلّ الإسلام وكذلك الحجيري، لا تحت ظلال الجاهلية، وذمُّ الجاهلية دأبٌ شائع ونهج راسخ، وبحجّته يوصمُ العرب قبل الإسلام بالهمجية والجهل المطبق، في حين أنّ للعرب قبل الإسلام أمجاد وأعراف وفضائل افتقدت أعزّها وأشرفها الأمة الإسلامية منذ فجر الإسلام وحتى يومنا هذا، ولطالما عاد المسلمون إلى أعراف الجاهلية لمعالجة مشاكل طارئة على الإسلام، فهذا علي بن أبي طالب يلفت نظر الخليفة عمر بن الخطاب، عندما أراد أن يضرب إحدى بنات كسرى  الثلاث، واللاتي عُرضن للبيع في أسواق المدينة، فلطمت إحداهن النخّاس عندما أراد أن ينزع لثامها، فيقول له: ارفع يدك يا عمر، بناتُ الملوك لا يُبعن، وهذه من أعراف العرب. وهاهم المسلمون، والإسلام غضٌّ طري ،يقتتلون في معركة الجمل، وعندما استعرّ القتل حول الجمل، صرخوا بشعار الجاهلية: البقية البقية، أي ما ندعوه اليوم بوقف القتال، وتكرّر الأمر في صفين، فصرخوا البقية، من لثغور الروم، من لثغور الفرس ؟

وهذه عائشة أم المؤمنين تقول لعلي بن أبي طالب بعد جلاء معركة الجمل وهزيمتها فيها: ملكت فاسجح ،أي ظفرت فأحسن، وهذه من أعراف العرب وفضائلهم قبل الإسلام، العفو عند المقدرة، وقد أجابها عليٌ لذلك، فأمر أخاها محمد بن أبي بكر، وكان في صفوفه، أن يتولّى حمايتها، وجهّزها أحسن جهاز، وبعث معها أربعين امرأة، وعندما ناظر الخوارج الذين عابوا عليه منعهم من السلب والغنيمة يوم الجمل بقوله: من منكم كان سيرضى أن تكون أمّهُ، أم المؤمنين عائشة من سهمه؟ فبُهتوا وسكتوا واستكانوا.

ثانياً: أسياد الحلم في "الجاهلية".. كان الأحنف بن قيس ،وهو مخضرم، أي عاش في الجاهلية وشهد الإسلام سيد الحلم في عصره، فقد سأل الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك خالد بن صفوان: بم بلغ فيكم الأحنف ما بلغ؟

قال: إن شئت أخبرتك بخلّة، أو بخلتين، أو بثلاث.

قال: فما الخلّة؟ قال: كان أقوى الناس على نفسه. قال، فما الخلّتان؟

قال: كان مُوقّى الشر، مُلقّى الخير.

قال: فما الثلاث؟ قال: كان لا يجهل، ولا يبغى، ولا يبخل. والاحنف عندما قيل له: ممن تعلمت الحلم؟

قال: من قيس بن عاصم المنقري، رأيتُه قاعدا بفناء داره، مُحتبيا بحمائل سيفه، يُحدّث قومه، حتى اُتي برجلٍ مكتوف ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك.

فو الله ما حلّ حبوته ولا قطع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه وقال له: يا بن أخي ،أثمت بربّك ، ورميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمّك، ثم قال لابن ٍ له آخر : قُم يا بُني فوار أخاك، وحُلّ كتاف ابن عمك، وسُق إلى اُمّه مائة ناقةٍ ديّة ابنها، فإنّها غريبة.

هذا قيس بن عاصم المنقري، سيدُ الحلم في الجاهلية، يتخذه الأحنف مثالا وقدوة، فلا عجب أنّ قيسا عندما وفد على النبي بسط له"ص" رداءه وقال: هذا سيّد الوبر.ولعلّ معظم من اشتهروا بالحلم في الإسلام المبكر ،إنّما كانوا يقتدون بمن سبقهم إلى ذلك في مأثور العرب وتاريخهم.

ثالثاً: أحوال اليوم، وقائع مريرة.. لمن يُوجّه الكلام؟

وهل ثمة من يقرأ، وإذا قرأ، هل يعقُل الكلام؟ هل يُوجّه لآل حمية في البقاع الأوسط، أم لعشائر البقاع قاطبة، أم للبيئة الحاضنة للعنف المشرّع على أبوابه الواسعة، ولماذا لا تُرتكبُ الفضائع ،طالما أنّ حزباً بقضّه وقضيضه يتباهى بخروجه على الدولة والنظام والقانون والأعراف، شاء ذلك قادتُه أم لم يشاؤا، وعوا ذلك أم لم يعوا، لقد تضخّم حجم اللاشرعيات بجانب الشرعيات، حتى ابتلعتها وتركتها بلا معنى، وأفضل مثال على ذلك، أنّ سماحة الأمين العام لحزب الله، يعلن مرارا وجهارا، بأنّ إطلاق النار الابتهاجي هو حرام شرعا وقانونا وعُرفا، ومن يطلق النار ابتهاجا، إنّما يطلقه على صدري وعلى عمامتي، ومع ذلك يُقتلُ الأبرياء ، وجُلّهم من الأطفال، برصاص الابتهاج كلما أطلّ الأمين العام نفسه، أو كلما دعا داع لذلك، وتمرُّ الأمور بلا حسيبٍ أو رقيب، وعندها لا يبقى معنى لقيم الجاهلية  أو الإسلام، أمّا الإنسانية فليست في الحسبان، وتطفو على السطح شعارات وقيم بالية، من بينها الثار ولا العار.