إنتهت الانتخابات البلدية. ومع صدور نتائج بلديات محافظتي الشمال وعكار اليوم تكون الستارة قد أسدلت على "العرض الأوّل". ويبقى العرض الثاني والأهمّ، عرض تحليل النتائج ودراسة معانيها وآثارها وتداعياتها. فمن الذي ربح من الذي انكفأ أو تراجع، وماذا أظهرت هذه الانتخابات على المستوى المناطقي وعلى المستوى الوطني؟
لنبدأ من أنّها أظهرت رغبة اللبنانيين عموما باحترام الاستحقاق الانتخابي، واظهرت الى حدّ بعيد ان اللبنانيين يتمسكون بالديمقراطية ولو كانت هذه العملية مشوبة بنواقص تتصل بتلاشي هيبة الدولة ومؤسساتها أمام سطوة بعض القوى الحزبية المسلّحة. ذلك لم يقلّل من شأن الانتخابات البلدية التي أعطت الناخب فرصة التعبير وتحديد الخيارات على المستوى المحلي.
يمكن ملاحظة أنّ الاحزاب السياسية الكبرى، الممثلة في الحكومة والبرلمان، لم تخرج من الانتخابات بانتصارات جدية. بل يمكن القول ان الخسائر كانت اكثر من الأرباح. لا ينطلق حساب الأرباح والخسائر هنا من لعبة الارقام وعدد الفائزين، بل من معطى آخر اكثر عمقا. فهذه الأحزاب وقعت في فخ المواجهة مع من تعتبرهم محازبيها او جمهورها. ليس خافيا أنّ النزعة المذهبية والطائفية التي غذّتها هذه الاحزاب لدى اللبنانيين أوقعتها في وهم أنّها تمثل أكثرية طائفتها او مذهبها.
هكذا روج حزب الله وحركة امل في السياسة انهما يمثلان 90 في المئة من الطائفة الشيعية، كذلك تيار المستقبل لم يكن متعففا من القول انه يمثل الاكثرية السنية الساحقة، فيما شكل تلاقي التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية مدخلا ليقول لسان الطرفين: نحن نمثل اكثر من 86 في المئة من المسيحيين. اما الحزب التقدمي الاشتراكي فلم يكن خارج هذا التصنيف على المستوى الدرزي.
بهذه الروحية وهذا الاستعلاء، وان بتفاوت بين طرف وآخر، دخلت الاحزاب لتجد نفسها تواجه من كانت تحسبهم من محازبيها او جمهورها. ويمكن ملاحظة ما صدر عن الحزب التقدمي الاشتراكي وعن حزب الله على الأقل وعن التيار الوطني الحرّ، وبشكل علني، عن عقوبات سوف تطال محازبين بسبب عدم التزامهم بالقرارات الحزبية في العملية الانتخابية. في المقابل لمس العديد من الناخبين، في معظم الساحات الانتخابية، ان شهية الاحزاب كانت عالية الى حدّ ابتلاع حتى الحيّز المحلي. وبدت شهية إقصائية للعديد من المواقع الاجتماعية التقليدية، سواء منها العائلي او المهني او الديني. فقد فضلت الاحزاب محازبيها وأرادت من خلالهم احتلال الحيّز الأهلي المتبقي في البيئات الريفية والمحلية.
كما لاحظنا أنّ التحالفات الحزبية، المتمثلة بالثنائية الشيعية، كانت أكثر المتضررين في هذه الانتخابات رغم فوزها بمعظم المجالس البلدية. لكنّ تداعيات هذا الفوز بدأت بالظهور من خلال إعلان أكثر من مجلس بلدي تحضره للاستقالة بسبب عامل انعدام الثقة بين الحزبين. وهو ما كشفته عملية الاقتراع. بلدية عربصاليم مثال. كما اظهرت معركة البلديات ظاهرة لم تكن موجودة وهي الصراعات داخل حزب الله (جبشيت، زبقين...) والصراعات دخل حركة أمل (حارة صيدا، طورا...)، إضافة إلى الصراعات بين أمل وحزب الله من خلال عمليات تشطيب لصادمة للطرفين، ولأمل تحديدا (مدينة النبطية مثلا).
لقد كشفت الانتخابات البلدية حالة الاستياء لدى الناخبين من التجربة الانمائية التي قدمتها الاحزاب واظهرت الى حدّ بعيد أنّها فاشلة أو لم تقدم ما وعدت به. كما عبّر الكثير من الناخبين عن هذا الاستياء بعدم الالتزام بالتوجيهات الحزبية كما حصل في انتخابات بلدية جزين، عبر إسقاط رأس لائحة التيار الوطني الحر، في رسالة لا تخلو من دلالة. وهي رفض تمادي الأحزاب في مصادرة ما تبقى من حيّز يمارس فيه الناخبون حريتهم في اختيار مجالس بلديتهم من دون اسقاط حزبي.
بعد الانتخابات البلدية غير ما قبلها. المجتمع وجّه رسالة اعتراض ضد سطوة الأحزاب وبأشكال متفاوتة وبمعانٍ مختلفة، بين منطقة وأخرى وبين طائفة وأخرى. رسالة كافية لتعيد هذه الاحزاب النظر بعلاقتها مع الجمهور، الـ"لا" كانت أقوى من الـ"نعم" في وجه الاحزاب. والموقف المستند الى بعد تنموي وديمقراطي هو الذي جمع بين المعترضين وليس العنوان أو الاطار السياسي. الـ"لا" كانت تعبيرا عن موقف يتصل ببعد مدني له علاقة بشروط الحياة اليومية ومصالح الناس في الشأن البلدي.