تمهيد: الإقطاع السياسي في لبنان.

  دأب التنظير اليساري بعد استقلال لبنان على توصيف الطبقة السياسية التي تبوأت مقاعد الحكم والتشريع بالإقطاع السياسي ،وهو مفهوم جديد منحول عن الإقطاع الزراعي الذي تتميز به الإقطاعية بشكل عام، وقد استند هذا التنظير على واقعة خسارة اقطاعيي لبنان أراضيهم الزراعية والريعية، فعوضوا خسارتهم هذه باعتلاء المناصب السياسية. وبعد الإصلاحات الشهابية لبنية النظام السياسي والاجتماعي في لبنان خلال فترة الستينات من القرن الماضي، والعمل فيما بعد على ضرب إنجازاتها،بعد اتفاق الطائف، الذي سلّم البلاد والعباد لاقطاب الحرب الأهلية وقادة الميليشيات ،وأعوان سلطة الوصاية السورية، ممّا أنتج طبقة سياسية هجينة من أبرز سماتها الطبائع الإقطاعية القديمة التي ظنّ البعض أنّها بادت وانقطع نسلها.

  ثانيا :الاقطاع في اللغة والتراث..

  في اللغة نقول: اقتطعت من الشيء قطعةً،ويقال: اقتطعتُ قطيعا من غنم فلان.والقطعة من الشيء : الطائفة منه.والقطيعة: ما اقتطعته منه، وأقطعني إياها: أذن لي في اقتطاعها، وأقطعهُ قطيعة أي طائفة من الخراج، واقطعه نهراً: أباحهُ له.
  ولما قدم الرسول المدينة أقطع الناس الدور، أي أنزلهم في دور الأنصار يسكنونها معهم، وقد تأوّل بعضهم أنّ إقطاع النبي المهاجرين الدور على معنى العاريّة، وأما إقطاع الموات، أي الأرض الميتة فهو تمليك،ومن هنا الحديث: من أحيا أرضا مواتا فهي له.وكان الإقطاع معروفا منذ فجر الإسلام، وجذوره ضاربة في حضارات الأحواض النهرية وأنماط الإنتاج القديمة القائمة على الملكية الخاصة للأرض في نطاق ملكية الدولة.وهكذا فالنظام الإقطاعي يقوم على الإنتاج الزراعي اقتصاديا واجتماعيا، وعلى نظام سياسي ذي طابع عسكري يقوم على الولاء الشخصي والامتيازات، ومبدأه ميل الحاكم المحلي إلى الاستقلال بما تحت يده، جرّاء ضعف الدولة المركزية وسيطرة أصحاب النفوذ على مقدراتها، ويتّسم المجتمع الإقطاعي بالركود والتخثّر ،فإيقاع الحياة الاجتماعية رتيب، والأعراف والعادات والتقاليد تتّسم بالثبات وقوة النفوذ، وتختلف حقوق الأفراد باختلاف الفئات التي ينتمون إليها. وتقوم العلاقات على مبدأ القرابة والعصبية والانتماءات العشائرية والدينية والمذهبية.

  ثالتا :إقطاعيو لبنان الجُدُد..

  ترنّح الاقطاع الشرقي بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، مع محاولات إصلاح الدولة العثمانية التي شهدها عصر التنظيمات، حتى أفلت شمس الامبراطورية العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأولى،وكذلك مع إصلاحات محمد علي باشا في مصر، والنهضة الفكرية السياسية التي شهدها العالم العربي، وتبعتها تصفية مواقع هامة للنظام الإقطاعيف عديد من البلدان العربية والإسلامية.

  رحم الله المقريزي فقد صنّف فئات المجتمع الإقطاعي إلى سبعة أصناف ،ولو بُعث حيّاً لضرب مثلا حيّا ساطعا عن حُكام لبنان، فهو يضع في المقدمة أهل الدولة وأهل اليسار وأولو النعمة، نعم، أهل دولتنا هم في المقام الأول من اليسار ( أي الغنى والثروة) وأصحاب النعمة،ويليهم الاشراف، أي آل البيت، ويمتازون بالهيبة والنعمة، وبنعم الله أصبح عندنا أشراف ورعاع.ويلحق بهم أصحاب المعاش:
السُّوقة وأهل الفلح والفقراء، ولا ينتقل أحدٌ من هذه الفئة إلى أهل الدولة واليسار إلاّ بنعمةٍ من السلطان أو الأمير، ( أو برشوة)، ومن هنا نشأ التفاوت في قيمة ما يتوجب دفعه لدخول الأسلاك العسكرية والأمنية، أمّا صنف أهل السيف عند المقريزي فلهم زيٌّ خاص يتّسم بالفخامة والترف، وقد شاعت هذه الفئة عندنا بحمد الله، الذي لا يُحمد على مكروه سواه،. أمّا رجال القلم، فهم أصحاب العمائم عند المقريزي، وعندنا أيضا، ودائما بحمد الله.

   وبما أنّ النظام الاقطاعي يمتاز بكثرة الحروب والفتن، في ظل عدم وجود مبدأ ثابت لتداول السلطة( والتسمية ليست منّي بل من المقريزي) غير القوة والاغتصاب.ومن هنا ندرك وللوهلة الأولى سر عدم انتخاب رئيس للجمهورية ، ففضلا عن عدم وجود مبدأ لتداول السلطة، فإنّ القوة والاغتصاب لم تتوفّرا حتى الآن لانتخاب رئيس جديد.وعلى كل حال، يجب أن لا نغتبط بأنّ عندنا نظام، ولو كان اقطاعيا، فحكامنا الذين ابتلانا الله بهم، يفتقرون لأبسط الفضائل الإقطاعية القديمة، وأبرزها، الأخلاق الارستقراطية، فهم اقطاعيون بلباس الرعاع، وأصحاب عمائم لا يعرفون فضل القلم وشرفه، وإذ يحتفظون بمزايا الإقطاع القائ على الاستغلال والارتفاق، إلاّ أنّهم لا يلتزمون بمبدأ عدم توريث الإقطاعة إلاّ بموافقة السلطان وبشروط خاصة جديدة
  لعلّنا نمدحهم ،إذ نهتدي إلى شبه نظام يسيرون عليه، في حين يدخل السوقة والفلاحون والتجار وأهل الحرف في متاهات مظلمة، وهم لا يضيعون وقتهم في النهب والاستغلال.