أحزاب الحرب الأهلية وميليشياتها حققت هدفا مشتركا هو تخريب الدولة والحلول محلها، ثم تابعت مهماتها بعد الطائف، برعاية النظام الأمني السوري الذي جعل النظام اللبناني صورة طبق الأصل عنه، حيث لا حاجة فيه لا لدستور ولا لقوانين. لذلك كان أول تعديل تم تطبيقه بعد الطائف هو إلغاء الفصل بين السلطات.

كان للبنان رئيس فصار له بعد التعديلات ثلاثة رؤساء، وغدت عبارة "الرؤساء الثلاثة" في رأس كل البيانات ونشرات الأخبار، وصار الثلاثة محجة للزائرين الأجانب والسفراء وممثلي الدول ووزراء خارجيتها للتشاور وتبادل الآراء، وبات رئيس المجلس النيابي يقوم بدور وزير الخارجية، بعد أن اقتضت المحاصصة أن تكون وزارة الخارجية من حصة الشيعة  (كتعويض عن وزارة المالية التي طالبت بها الشيعية السياسية).

في المقابل أخذ النظام السوري والرئيس الشيعي على رئيس الحكومة رفيق الحريري أنه استولى على دور وزير الخارجية بحكم علاقاته الواسعة النطاق مع شخصيات عالمية في الحكم وخارجه، وتحول الأمر إلى منازعات دائمة تنتهي بتسويات مالية في مجلس الجنوب.

في مرحلة ما بعد الطائف، لم يقتصر الأمر على بدعة ثلاثة رؤساء متساوين بالمرتبة (الثلاثة هم رؤساء) بل أخذت المحاصصة مداها، فكان لكل رئيس وزراؤه ونوابه وموظفوه في الإدارة العامة والجيش وقوى الأمن، وصار لكل زعيم منطقة بوسع محافظة أو اثنتين كما هي الحال مع نبيه بري أو نصف محافظة كما هي الحال مع وليد جنبلاط أو القضاء كما هي الحال مع سليمان فرنجية، وصار كل زعيم، في منطقته، يمثل جميع السلطات، فتحولت إقامة رئيس الجمهورية في القصر الصيفي في بيت الدين لينحصر معناها في حسن الضيافة الدرزية.

وصار الرئيس بري هو الذي يستقبل رئيس الجمهورية في الجنوب ويتأهل به بصفته زائراً منطقة تخص سواه، وهو الذي يرعى تدشين المشاريع الحكومية، مصادراً دور السلطة التنفيذية برئيسها ووزرائها، أيا تكن طبيعة المشروع ووزارته المختصة، مدارس وطرقات وجسوراً وآباراً ارتوازية وغيرها، وصار رئيس الحكومة يبرق لقائد الجيش معزياً بشهيد من الجيش اللبناني، وكأنه يقوم بواجب التعزية كأي غريب أو أجنبي أو زائر أو جار. قضى نظام المحاصصة على الأسس الديمقراطية التي قام عليها النظام اللبناني والتي كانت الدولة تعتمدها في آليات عملها.

فلم يعد مجلس النواب مصدر التشريع ولا مجلس الوزراء هو السلطة التنفيذية، بل توزعت بعض الصلاحيات على المحاصصين،  وحلت الترويكا( الرؤساء الثلاثة) محل الهيئات التي يرئسونها، فيتفقون على القرارات قبل إصدارها في المجلس النيابي أو في مجلس الوزراء، وإن لم يتفقوا عادوا إلى نظام الوصاية ليلعب بينهم لعبة "فرق تسد"، ولهذا كانت طريق بيروت دمشق مفتوحة بشكل يومي أمام المسؤولين اللبنانيين على كل المستويات، للاستشارة أو للشكوى أو لإيصال التقارير التي تفيض عن مسؤولية رئيس جهاز المخابرات في عنجر(مقر رئيس الجهاز).

لم تقتصر مفاعيل المحاصصة والترويكا على طريقة إدارة الحكم في لبنان، بل تعدت ذلك إلى تخريب منظومة القيم السياسية والأخلاقية، فلم يعد السياسي اللبناني، الملزم بتقديم تقرير عن نشاطه إلى ضابط صغير في جهاز المخابرات، موضع احترام، ولم تعد السياسة مهمة سامية، وفقدت بريقها وهبط مستواها حين تحول كثير من السياسيين إلى سماسرة لدى ضباط الجيش السوري، بل إلى أدوات رخيصة مهمتها كتابة التقارير وتدبير المكائد والصفقات، والتنافس على نيل رضى نظام الوصاية بكل الوسائل المتاحة ومنها الرشاوى المسروقة من المال العام أو من تبييض الأموال في البنوك. فقد ندر وجود رجال الدولة وغلبت أعداد رجال السياسة الذين وصفهم أحد المحنكين بأنهم ليسوا" أبناء كار"، أي ليسوا من طينة رجال الدولة الذين عرفهم لبنان الاستقلال، ومع كل جيل من الخلف صار اللبنانيون يترحمون على جيل السلف.

فالاقطاع السياسي كان يبيع الأرض ليمارس السلطة، بينما صارت السلطة مورداً مالياً لسياسيي الحرب الأهلية.  وإذا كانت هذه حال السياسي فكيف ستكون حال الحاشية والأزلام؟ الركن الأساس في قيام دولة القانون والمؤسسات هو القضاء. فهو ليس واحدة من المؤسسات، بل  سلطة من سلطات الدولة الثلاث، إلى جانب التشريعية (البرلمان) والتنفيذية( الحكومة)، وهي كلها صاحبة الحق باتخاذ القرار، كل ضمن صلاحياته واختصاصه، في الشؤون المتعلقة بإدارة المجتمع والدولة. يضاف إليها اليوم رابعة هي الإعلام وخامسة هي المجتمع المدني، لكن صلاحية كل منهما تقف عند حدود الضغط المعنوي، دون حق المشاركة في اتخاذ القرار.

عاهة كبرى كان يشكو منها القضاء قبل الحرب، هي مخالفته مادة في الدستور تنص على أن اللبنانيين واللبنانيات متساوون أمام القانون، في حين كانت المحاصصة تقتضي أن يكون رئيس القضاة في لبنان مارونياً .

أصل العاهة سياسي، وما يخفف من وطأتها أن القضاء كما سائر مؤسسات الدولة كان يعتمد معيار الكفاءة، مكتفياً به، جاعلاً تكافؤ الفرص محصوراً داخل أبناء الطائفة الواحدة، فيما كانت السياسة تضيف معيار الولاء، ما يجعل القاضي مديناً بالفضل لمنّة صاحب الفضل.

مع ذلك ظلت صورة القضاء نقية إلى حد كبير، وبرعت أسماء كثيرة في فقه القانون وكان لبنان ثاني الدول العربية، بعد مصر، في سمعته العالمية واحترامه هذه السلطة التي تشكل ضمانة للعدالة في نظام يحتكم الناس فيه لفض خلافاتهم إليها، بدل اللجوء إلى العنف ، وخصوصاً إلى العنف المسلح.

الحرب الأهلية هي العنف المسلح في أبشع صوره. ضحيتها الأولى عدالة القضاء، لأنها تعبير عن خيار لا يعترف بالقضاء سلطة ولا مرجعاً.

مع ذلك حصلت المساومة خلال الحرب الأهلية 1975-1990 فظلت المحاكم اللبنانية تقوم بعملها وتطبق القانون على من كانوا ما يزالون يعترفون به ويخضعون لأحكامه، في المجالين المدني والجزائي، ضمن القضايا المتعلقة بالملكية والاحوال الشخصية وقانون العمل والجرائم العادية وسواها، وكانت تحفظ القضايا والدعاوى المتعلقة بالحرب أو بذوي النفوذ العسكري من اللبنانيين والأجانب (السوريون والفلسطينيون على نحو خاص) في تلك المرحلة.

 مع اتفاق الطائف و نهاية الحرب الأهلية، بدا كأن النظام السوري يريد إحكام قبضته، مستفيدا من مباركة دولية استحصل عليها بعد مشاركته في حرب الخليج الأولى، فعمل على استنساخ نظامه المخابراتي الاستبدادي ، بإلغائه الأركان التي يقوم عليها النظام البرلماني الديمقراطي في لبنان.

فهو الذي ابتدع صيغة "الترويكا"، وهو الذي اختار أسماء النواب المعينين لاستكمال العدد قبل أول انتخابات، وهو الذي اختار المرشحين لأول انتخابات نيابية أو، على الأقل، بارك تشكيل اللوائح بعد أن أشرف على تعديل قانون الانتخاب.إذن من شروط الاستنساخ، إلغاء القانون والمؤسسات من دولة القانون والمؤسسات، والبديل الوحيد هو حكم الأجهزة.

حكمت الأجهزة، من وراء الستار حيناً وفي العلن أحياناً أخرى، المؤسسات الكبرى، رئاسة الجمهورية، المجلس النيابي والحكومة، ومن يخالف الأوامر يلق المصير المحتوم، على الأقل الاستبعاد من نعيم السلطة، هذا ما حصل مع النائب البعثي عبدالله الأمين في الجنوب، والنائب من الحزب السوري القومي الاجتماعي حسن  عز الدين عن عكار، والنائب عن البقاع يحي شمص، ومع الكثيرين ممن استبعدت أسماؤهم من لوائح الترشيح إلى المجلس النيابي أو إلى مجلس الوزراء، وجعلت بعض المخالفين عبرة لمن اعتبر.

إلا القضاء الذي كان لا يزال مستعصياً ومحافظاً، إلى حد كبير، على مهابة القانون، فكان لا بد من تطويعه بكل السبل المتاحة بالترهيب والترغيب وخلخلة الأسس والمعايير التي يتم اختيار القضاة  استناداً إليها، فكانت فرصة سانحة استفاد منها النظام الأمني اللبناني السوري، تمثلت في الحادثة الفاجعة التي تم فيها اغتيال القضاة الأربعة وهم على قوس المحكمة في صيدا، فتم توظيفها في إرهاب القضاء بطريقة غير مسبوقة، على طريقة المثل القائل، انج سعد فقد هلك سعيد.

لأول مرة في تاريخ الجمهورية اللبنانية تصبح نزاهة القضاء، كسلطة مستقلة، موضع شك، لما لحقه من أذى بسبب تدخل السياسيين في شؤونه. وبديلاً من أن تكون الأجهزة الأمنية أداة تنفيذية بيده، حصل العكس، فعملت الأجهزة على تحويله أداة في يدها، وراحت تدبر المكائد وتزور الملفات ضد كل من يخالف أوامرها ولا يستجيب لطلباتها( الدعوى ضد يحي شمص أو سمير جعجع).

أحد أشكال التدخل الذي مارسته السلطة السياسية، أو من يحكم باسمها من الأجهزة، تعطيل التشكيلات القضائية، إذا لم تكن متوافقة مع مصالحها، وذروة التدخل حصل في المحكمة العسكرية التي برأت مجرمين وأدانت أبرياء، بناء لرغبة أصحاب النفوذ السياسي والعسكري من الأجهزة والميليشيات المسلحة(قضية العميد فايز كرم نموذجاً) نظام الوصاية كان ينفذ بالجملة تاركاً للقوى السياسية اللبنانية التنفيذ بالمفرق، أو هو كان يقصف بالمدفعية ويدفع اللبنانيين إلى متابعة التمشيط في جيش المشاة.

فقد كان لسياسة الترهيب أثرها على بعض القضاة الذين، لأسباب شتى منها الخوف، ولا سيما في أثر تهديدات تعرضوا لها بعد اغتيال الحريري،  عادوا إلى مرجعياتهم الحزبية، ليحتموا بها بدل أن يكون القانون هو الحماية للجميع، بمن فيهم القضاة أنفسهم، وكأنهم استدرجوا أنفسهم إلى حضن العقلية الميليشيوية واختاروا أساليبها المافياوية بديلاً من القانون، فأسيئت سمعة القضاء على يد البعض، ولم تتردد هيئة التأديب القضائية  في فصل بعضهم من السلك، ولا قصرت وسائل الاعلام في التعرض للقضاء في حملة قاسية لتحصينه ضد كل أنواع التدخل السياسي.

آخر "المبتكرات" في تخريب القضاء وضعه على السوية ذاتها مع الإدارة العامة ، والتعامل معه كأنه وظيفة من وظائف الدولة لا سلطة من سلطاتها. ففي آخر مباريات أجريت للدخول إلى معهد القضاء(2015) نجح بضعة وثلاثون مرشحا ورسب آخرون.

غير أن المتنفذين في السلطة السياسية وافقوا على قبول خمسة من الراسبين في عداد طلاب المعهد بصفة "مستمعين"، تطبيقا لمادة منسية من مواد القانون، شاء المحاصصون أن يطبقوها للمرة الأولى منذ صدوره  في المرحلة الشهابية، أي في الستينات من القرن الماضي.

ماذا يبقى من دولة القانون حين تنهار السلطة التي تحمي القانون؟

المدن