بعد زحلة، جونية وجزين، تأتي الانتخابات البلدية في طرابلس حاملةً رسائل سياسية عديدة على أكثر من صعيد. أبرز معارك الجولة الأخيرة من الانتخابات البلدية، ستعيد رسم المشهد السياسي للمرحلة المقبلة. صناديق الاقتراع ستُحدد يوم الأحد إذا كان الرئيس نجيب ميقاتي هو فعلاً اللاعب الأقوى الذي سيفرض شروطه في التركيبة النيابية كما فعل في البلدية. العنصر الثاني المهم هو مصير أشرف ريفي بعد «تمردّه» على تيار المستقبل وقراره المواجهة

الجولة الـ 22 من الحرب في طرابلس «بلدية». الجبهات التي ركدت مياهها منذ عام 2014 تقريباً اشتعلت من جديد، وإن اختلفت عناوينها وأسلحتها. حيطان المناطق الشعبية تساوت مع حيطان المناطق الأكثر رخاءً، فبات لا يكاد يسلم «فراغ» من صور المرشحين الكثر إلى الانتخابات البلدية التي ستجرى الأحد. هذا الانطباع العام الذي يتكون من مجرد معاينة زواريب المدينة «عا الماشي»، لا وقع له بين الناس. الرجل الذي تتعب دواليب عربته لنقل الخضر ولا يتعب هو من جرّها تحت الشمس، لا يجد نفسه معنياً بهذا الاستحقاق. المرأة التي تستغل ساعات النهار للتبضع، تشغلها أمور كثيرة أهم من «البلدية». الشباب الذين يتبرعون للعب دور «الدليل» لأي غريب في المدينة، يُفضّلون البحث عما يؤمن لهم مورد رزقهم على التفكير بما إذا كانوا سيُسقطون اللائحة «زيّ ما هيي» أو يلجأون إلى التشطيب. يُدرك أبناء المدينة جيداً أنّ قيمتهم تكمن فقط في كونهم «أصواتاً ترفع من شأن هذا وتُنزل ذاك إلى قعر السياسة».

الانتخابات البلدية في مدينة طرابلس تهتم بأمور كثيرة إلا بالإنماء. لا يوارب فيصل عمر كرامي وهو يقول لـ«الأخبار» إنّ «المعركة هي في السياسة. الثلاثاء بعد الانتخابات نتكلم في الإنماء». والعنوان السياسي لهذه المعركة هو، استناداً إلى مصادر متابعة للمفاوضات التي رافقت إعلان اللائحة التوافقية، «إعادة رسم خريطة التحالفات المقبلة التي ستنطلق من طرابلس وهي بالتأكيد لا يُمكن أن تنفصل عن الانتخابات النيابية العام المُقبل». الثابتان الأساسيان في المدينة «يبقيان كرامي والصفدي، في حين أنه ثبت خروج الأحدب وريفي من السباق النيابي». أما المقاعد النيابية الخمسة المُتبقية فـ«ستتبلور نتيجة المحادثات بين الحريري وميقاتي، الذي سيسعى إلى تحصين نفسه بمقعد سني إضافي لما يملك. هذه التقسيمات يُحددها قانون الانتخابات الجديد». نظرية أنّ ميقاتي يسعى إلى تثبيت نفسه اللاعب الأوحد طرابلسياً تُسقطها المصادر المتابعة من حساباتها، «لا ضرورة لأن يُبرهن ذلك. هو الأول وبعده يأتي تراتبياً تيار المستقبل، محمد الصفدي وفيصل كرامي، وأخيراً الإسلاميون».

يسعى ميقاتي إلى السيطرة على طرابلس عبر تمكين قبضته على المجلس البلدي. في الإطار نفسه، يقول مدير مركز طرابلس للدراسات المرشح المنفرد عامر أرناؤوط إنّ «هذا أول اختبار لنجيب ميقاتي وهو فهم الرسالة. هذه المعركة ستعطيه شرعية للنيابة». أما كرامي، فيعتبرها معركة «تثبيت الائتلاف في طرابلس. هذه المدينة تحولت إلى موزاييك ولم يعد أحد قادراً على إلغاء أحد».

التوصل إلى التوافق في بلدية طرابلس لم يكن بالأمر السهل. في المرحلة الأولى، التقى الحريري فور عودته إلى لبنان كلّاً من الصفدي وكرامي، طارحاً عليهما السؤال نفسه: «إذا خُضت معركة بلدية ضد ميقاتي، في صف من تقفان؟». الصفدي لم يُخيب الآمال: «إلى جانبك طبعاً». أما كرامي فأدرك اللعبة مُسبقاً: «فلنتفق مع نجيب». ردّة فعل الصفدي ترجع إلى سببين، «أولاً تنافسه مع ميقاتي على الصحن نفسه. وثانياً لأنه في طرابلس كلما اجتمع اثنان عملا على التخلص من الثالث». كرامي حاول الحفاظ على حماوة خطوط الاتصال جميعها لأنه «يعرف أنه لا يريد الابتعاد عن ميقاتي ولأن حلم رئاسة الحكومة لم يتبلور لديه بعد». أما المرحلة الثانية التي أوصلت إلى التوافق، فكانت انصياع الأطراف السياسية الطرابلسية «لرغبات السعودية في لملمة الصف السني». وقد تجلّى ذلك، غداة الانتخابات البلدية في صيدا ساعة وقف الحريري يُعلن: «أنا والرئيس ميقاتي نتكامل»، هو الذي رفض بعد عودته إلى لبنان لقاء «غريمه» الطرابلسي، بذريعة من يتنازل ويزور مَن في منزله أو منطقته. هنا أيضاً «قدرة أكبر من لبنان عملت على تذليل عقبات عقد اللقاء».

التحليلات التي رافقت إعلان اللائحة التوافقية عديدة. قيل إنها «حرب إلغاء» يشنها ميقاتي ضدّ كلّ من ريفي والحريري بالدرجة الأولى، إضافة إلى رغبته في «تحجيم» الصفدي والقول إن كرامي هو الرقم اثنان في المدينة.

ولهذه الغاية، أضافت «خبريات» بعض الصالونات الطرابلسية، دفع ميقاتي بالأحدب إلى الترشح، ممولاً حملته الانتخابية، وهو ما ينفيه قطعاً الأحدب ومصادر ميقاتي. «طالما أن هناك توافقاً، من سيلغي الصفدي وكيف؟»، يسأل نائب رئيس مؤسسة «الصفدي» أحمد الصفدي. يوضح لـ«الأخبار» أنّ رئيس البلدية «أتى بموافقة الجميع بعد مشاورات عدّة. نحن حريصون على الاتفاق»، مؤكداً أنّ الوزير الصفدي «لعب دوراً أساسياً في تقريب وجهات النظر». بالنسبة إليه، «نحن لا نخوض المعركة من منطلق إقصائي». انطلاقاً من هنا، «عنوان المعركة هو عدم انقسام البلد وتوحيده عبر تسمية أشخاص كفوئين لا يأتمرون بأحد. وضعنا خلافاتنا السياسية جانباً». حتى إنه كان يتمنى انضمام ريفي إلى التحالف، «بيد أنّ خلافاته مع المستقبل حالت دون ذلك». أما عن التمويل، فيعتبر الصفدي أنه «لن يكون بحجم الانتخابات السابقة».

في المدينة تسري أخبار مفادها أنّ ميقاتي يخوض المعركة بميزانية مفتوحة تبدأ من خمسة ملايين دولار «وقد يكون للائحة مجتمعة قرابة العشرة آلاف مندوب». النائب روبير فاضل يوضح أنه «يحق لكل مرشح 300 مندوب ثابت و60 جوالاً. ما يعني وجود 8640 مندوباً للائحة». «أجر» المندوب يتفاوت بين ماكينة وأخرى، إلا أنه يتراوح ما بين 150$ و300$.

تحذو كلّ قوى اللائحة التوافقية حذو بعضها في نفي تقسيم المجلس إلى حصص. ففي وقت تقول فيه المصادر المتابعة إنّ «لدى ميقاتي 24 عضواً وفي الوقت نفسه لا أحد. يريد بلدية متعاونة معه»، ينفي كرامي منطق المحاصصة «لأننا منذ البداية وضعنا هذا المعيار والتزمنا به. الحزبان الوحيدان الممثلان هما الجماعة الإسلامية والأحباش لأنه لا يوجد لديهما أنصار بل حزبيون فقط».

مكتب كرامي يغص بالرجال الذين أتوا يقفون على خاطره. بين رشفة من الزنجبيل واتصال من والدته مريم قبطان التي تتابع عمل الماكينة الانتخابية منذ أيام الرئيس الراحل رشيد كرامي، يتحدث «الأفندي» عن طرابلس «الضيعة الكبيرة». هو مُرتاح لهذه الانتخابات التي «نخوضها للمرّة الأولى بغياب الرئيس عمر كرامي». يُدرك جيداً أنّ «التوافق يُخفف من حدّة المعركة، ولكن حكماً نسبة التصويت ستكون أعلى من بيروت. ماكينتنا تعمل على الصوت». العمل يتركز حالياً «على الاتصال بالناس لحثهم على الانتخاب. نحن لدينا الماكينة الأقدم والأكثر قدرة على التجيير والالتزام».

اللوائح العديدة في المدينة دليل على شرذمة الصوت الطرابلسي وتفلّت القرار في المدينة من أيدي كلّ القوى. مصادر قريبة من ريفي تعتقد أنّ «هذا التشرذم يصب في مصلحة ميقاتي الذي يلجأ دائماً إلى المواربة في معاركه، فلا يكسر أحداً مباشرة، تحت حجة حماية الطائفة». يوافق المستشار السياسي لميقاتي خلدون الشريف على أنه «في المدينة مجموعة من القوى»، ولكنه يعتبر أن «الجميع يُجمع على أن ميقاتي هو الأول». بالنسبة إليه «هذا الأمر ليس بحاجة إلى تأكيد من أحد». أما ما يُحكى عن رغبات النائب الطرابلسي الإقصائية، فهي «ليست جزءاً من شخصيته. هو يُدرك أنّ السياسة ليست سباقاً قصيراً، بل مجموعة سباقات ومثابرة».

من جهته، ينفي المنسق العام لتيار المستقبل في الشمال ناصر عدره أن تكون في طرابلس معركة انتخابية، «هو توافق على مشروع مُعين من أجل إنماء المدينة عبر لائحة تضم أفراداً من المجتمع المدني هدفها مصلحة المدينة وهي تلاقي إقبالاً من الجميع». عمل «المستقبل» يتركز حالياً على رفع نسبة الاقتراع «ولا توجد مخاوف من تكرار سيناريو بيروت.

المكونات جميعها ملتزمة باللائحة والأحد ستُظهر النتائج ذلك». تُتهم ماكينة تيار المستقبل بأنها لا تزال على مقاعد الاحتياط لأهداف سياسية، كأن يظهر أي خرق للائحة وكأنه خسارة لميقاتي. إلا أنّ عدره ينفي ذلك، مؤكداً أن «الماكينة انطلقت منذ شهر وكنا من الأوائل».

الأحد المقبل، ستشهد طرابلس إعادة رسم مشهدها السياسي للسنوات الست المقبلة. النتائج التي ستفرزها صناديق الاقتراع ستسمح للمنتصر بوضع تصور للانتخابات النيابية في الـ 2017. في انتظار النتائج، يبدو حتى الساعة أنّ الرابح الأكبر من هذا الاستحقاق هو نجيب ميقاتي. نجح في جرّ منافسيه الطرابلسيين وخصومه إلى توافق وفقاً لشروطه. ثبّت نفسه اللاعب الأقوى في طرابلس، انطلاقاً من قدراته الخدماتية، ومستفيداً من تراجع خصومه. الجولة الثانية التي يهدف إليها ميقاتي، هي منازلة أشرف ريفي، تمهيداً لعزله طرابلسياً. أحصنة طروادة عديدة يجري تحضيرها لهذه الغاية.

ريفي والخاصرة الرخوة

تتنافس في طرابلس أربع لوائح للانتخابات البلدية. اللائحة الأولى هي «لِطرابلس»، ويدعمها النواب: نجيب ميقاتي، محمد الصفدي، سعد الحريري، روبير فاضل والوزير السابق فيصل كرامي والجماعة الإسلامية والأحباش. اللائحة الثانية هي «طرابلس عاصمة» التي يترأسها النائب السابق مصباح الأحدب. أما اللائحة الثالثة، «قرار طرابلس»، فيدعمها وزير العدل المستقيل أشرف ريفي. إضافة إلى لائحة رابعة هي «طرابلس 2022» التي تضم أربعة «مستقلين»، فضلاً عن مرشحين منفردين، بعضهم يمثل حركة «مواطنون ومواطنات في دولة». إذا استثنينا خطاب ريفي الذي لا يُفوت مناسبة لاستحضار «ولاية الفقيه» والإيحاء بأن حزب الله آتٍ لـ«فتح» طرابلس على حصان الجيش السوري، «هذه المرّة لا يُقدم أي فريق عنواناً جذاباً»، استناداً إلى أحد سياسيي المدينة. العنوان الجذاب هنا يعني «كلّ ما يدل على مظلومية أهل السنة ودق ناقوس الخطر: اغتيال رفيق الحريري أو أحداث السابع من أيار مثلاً».

يواجه ريفي خصومه بفيديوات تُشبه بيانات الثوار أو السياسيين المنفيين، وبجولات على المناطق الشعبية. هنا الخاصرة الرخوة للائحة التوافق، المتهمة بأنها استبعدت هذه المناطق من التمثيل، مختارةً أشخاصاً لا يعرفون أين تقع الأحياء الفقيرة. كلّ مكونات «لِطرابلس» الذين تحدثت معهم «الأخبار» يُجمعون على أنه لا «خلاف مع المناطق الشعبية. أصلاً ماذا يعني هذا التعبير؟ ما كل طرابلس شعبية وهي ممثلة على اللائحة. إلا أنّ لب المشكلة كان استبعاد (عضو المجلس البلدي الحالي) عربي خليل عكاوي». تُحاول مصادر لائحة «السلطة» تسخيف حركة وزير العدل، عبر الادعاء بأنها «همروجة قام بها ليُحصّل رقماً معيناً. بعد الانتخابات سيُطلب منه زيارة الحريري ومصالحته». من جهته، يرى مدير مركز طرابلس للدراسات عامر أرناؤوط (المقرب من ريفي) في حديث إلى «الأخبار» أنّ «معارضة اللواء للمحاصصة أظهرته كأنه الزعيم ضدها. لائحة التوافق قدمت له هدية مجانية». يضيف أرناؤوط إن «حركة ريفي موجهة أولاً ضد تيار المستقبل؛ وثانياً، هو يتحدى ميقاتي».

 


ليا القزي – الأخبار