لا يوجد في الجنوب أو البقاع "كتلة مال سياسي" تصرف أموالاُ أكثر مما يصرف حزب الله. ليس في محافظات الجنوب والنبطية وبعلبك والهرمل وجبل لبنان (الضاحية) مسؤول في مؤسسة رسمية إدارية أو أمنية يمكن أن يعيّن في منصبه إن لم يكن اسمه آتيا من مركز القرار في حزب الله و/أو حركة أمل. ليس هناك مخفر درك أو جهاز عسكري سجّل على نفسه أنّه اعتقل، ولو عن طريق الخطأ، عنصرا من حزب الله، منذ زمن بعيد. بل لا يجرؤ أي مركز أمني على استدعاء عنصر من حزب الله إلى المركز الامني حتّى لو كان هناك شكوى من مواطن ضدّه على خلفية قضية لا علاقة لها بالمقاومة. والدليل سرقة آلاف الدونمات من المشاعات دون صدور حكم واحد بحقّ مئات السارقين الطليقين. يكفي أن يرفع هؤلاء صور السيد حسن نصرالله أو الرئيس نبيه بري في مركز "السرقة" أو في منازلهم أو في لافتات بالشارع.
في الانتخابات البلدية الاخيرة لم يكن الناخب عموما يجهل مثل هذه الحقائق، بل بات يعرفها ويدرك كيف أنّ الشعارات التي يساق بها إلى صندوق الاقتراع في كلّ انتخابات، هي التي تشكل حاضنة الفساد ومصدر حمايته في المجالس البلدية وعلى مستوى إدارات الدولة وكل ما يتّصل بالشأن العام.
في الجنوب والنبطية والبقاع والضاحية خرج هذه المرّة مرشحون مستقلون ليعترضوا بصوتٍ عالٍ. وكان في وجههم المال الانتخابي. كان حاضراُ، وبقوّة. رغم أعلان نصر الله، في كلمته الأخيرة، أن حزبه لم يدفع مالا. وكانت الضغوطات على المئات، ومعظم المرشحين انسحبوا بعد تهديدهم بأرزاقهم وطبابتهم وحقوقهم ورواتبهم ومساعداتهم...
لكن رغم تحالف المال والسلطة والسلاح، ترشّح مستقلون في مواجهة أمل وحزب الله. مستقلّون لايملكون قدرات مالية أو ماكينات انتخابية بحجم ربع ربع ربع ماكينة حزب الله العملاقة. مرشّحون لا يملكون غير كفاءتهم واحترامهم في محيطهم الاجتماعي. ورغم نكران السيد نصر الله، خلال كلمته قبل يومين، في كل البلدات ثمة شواهد على أموال دفعت للنقليات وبونات بنزين وزّعت على كثيرين من أبناء الجنوب المقيمين في الضاحية. أصحاب الفانات على خط بيروت الجنوب وصلهم المعلوم لنقل الناخبين. والماكينة الانتخابية بكامل عناصرها هي جهاز مدفوع الأجر بالكامل، مع الإكرامية. وفي بلدات كثيرة دفعت أموال لقاء الأصوات، في سابقة لم يضطرّ لها حزب الله وحركة أمل من قبل.
رغم ذلك نجح هؤلاء بإحراج حزب الله. ولأوّل مرّة في تاريخ حزب الله السياسي لا يخرج السيد حسن نصرالله ليصف الانتخابات بـ"الاستفتاء". كان في الانتخابات السابقة يبدأ من وصف ما حصل بأنّه "استفتاء"، ليبني على هذا الاستفتاء نكاته على خصومه. هذه المرة تهيّب الموقف، رغم محاولة التفافه بالقول إنّ هناك "انتصارا بأكثرية ساحقة" حصده التحالف بينه وبين أمل. أهمل المعارك التي كانت محرجة للثنائية من حيث نسب الاعتراض التي أظهرت بوضوح وجود كتلة مستقلّة حقّقت نسباً عالية من التصويت. نسب مقدّرة بنحو 40 في المئة بشكل عام في عموم المناطق الشيعية. نسب تراوحت بين الهزيمة "الناجحة"، كما في بعلبك، حيث 46 % من الناخبين قالوا "لا" لحزب الله، أو حقّقت خروقات في عشرات البلدات الجنوبية والبقاعية.
زبقين وتبنين وحاريص ثلاث بلدات كبرى أعلن حزب الله بعد ظهر الأحد الفائت أنه سحب مرشحيه من المنافسة فيها. بالتأكيد لم يكن الانسحاب تعففا، بل للهروب إلى الأمام من خسارة حاول تفادي إعلانها. وذلك من خلال خطوة غير مفهومة هي إعلان انسحاب المرشحين. و"المسحوب مغلوب"، فكيف بعد بدء عملية الاقتراع.
ماذا عن جويا؟ ماذا عن القليلة؟ حيث اشتكى رئيس اللائحة المقابلة للثنائية من محاصرة منزله بالمسلحين من دون أن تتحرك محطات البثّ التلفزيوني نحوه ونحو البلدة. 
أما التحالف مع أمل، الذي أكّد السيد نصرالله على "متانته" و"نجاحه"، فهو نجح فقط على صعيد المحاصصة وعلى صعيد منع المنافسة. أما المتانة فيفترض أن تصل بالعلاقة بين الطرفين إلى الاستعداد للتنافس، حيث يكشف كلّ طرف مدى قوته ومدى تمثيله بين الناخبين. أما في الجنوب، على سبيل المثال، فقد تحالف الطرفان لكن لم نفهم ضدّ من! وفي قرى وبلدات كثيرة كان "التشطيب" شغالا، ليثبت كلّ طرف أنّه أقوى في هذه القرية أو تلك. وكلمة "الطعن في الظهر" سمعتُها بنفسي من مسؤولين في حركة أمل يصفون سلوك حزب الله الانتخابي، في قرى منها الزهراني وفي مدينة صور وفي المنصوري، وفي قرى قضاء بنت جبيل...
لنقرأ العنوان مجددا. عودوا إلى أعلى الصفحة، وإلى أدنى المواقف.