عندما تجتمع العائلة لتفكر، وتقرر، وتنفذ، تحتجب السياسة او تنحدر الى مرتبة متدنية، مرتبة اللقاء البشري البدائي، السابق لبقية أنماط الاجتماع الانساني.. وتتقدم فكرة المافيا، وتحضر في الاذهان طقوسها وتقاليدها المقيمة أبداً في لبنان.

لم يكن مدعاة للفخر أن تدور الانتخابات البلدية في مرحلتها الجنوبية الثالثة، كما في مرحلتيها السابقتين، حول العائلات بوصفها كيانات اجتماعية-سياسية قائمة بذاتها، او ان تتخذ المعارك الانتخابية شكل مواجهات عائلية بحتة، وان تقدم النتائج باعتبارها مقياساً لاحجام العائلات وأوزانها داخل كل مدينة او بلدة.

هذا البعد العائلي المشين للانتخابات البلدية، هو بالتعريف إرتداد حتى عن الطائفية والمذهبية وهما عنوان التخلف اللبناني وجوهره، وهو إنكفاء حتى عن جهوية المحافظات الخمس او الست التي كان يفترض أن تؤسس لوحدات جغرافية متجانسة الى حد ما. أما الاحزاب والتيارات السياسية، التي كانت ولا تزال تمثل طموحاً لبنانياً بعيد المدى، فقد كان تساقطها تحت شجرة العائلة، وتسليمها الامر الى المكون العائلي الأشد صلابة من الايديولوجيات والافكار والبرامج العامة، أشبه بعملية خداع مزدوجة.

كانت شجرة العائلة وستبقى وارفة أكثر من أي غابة سياسية تزرع في لبنان. لكن تلك الشجرة لم تزهر هذه المرة إلا لأن الاحزاب التقليدية جبُنت، وتراجعت في اللحظة الاخيرة عن خوض الصراع المباشر في ما بينها، وتركت للعائلات ان تحدد أولوياتها وتحسم خياراتها وتقترح حلولا.. يعرف الجميع انه لن يكون لها أي جدوى اذا ظلت محصورة بالنطاق البلدي الضيق، الذي يمكن ان يعالج بعض المشكلات ويوفر بعض الخدمات، لكنه لا يمكن ان يتخطى لوحده أزمات كبرى مثل الطاقة او المياه او حتى النفايات..

كأنما "العائلات" وقعت في كمين الاحزاب، بدلا من ان يحصل العكس. تفادت الاحزاب المواجهة المباشرة، بذريعة ان القضية محلية-ريفية، فتحمست العائلات للمنافسة السياسية في ما بينها، وهو ما زاد من صعوبة تحديد الخسائر والارباح لكل تيار او حزب او تنظيم.. ربما باستثناء العاصمة التي كانت انتخاباتها نموذجية الى حد بعيد.   

ومثلما لم يبقَ في الذاكرة من معركة بيروت سوى الظاهرة الاعتراضية المميزة التي مثلتها لائحة "بيروت مدينتي" التي حصدت 40 بالمئة من الاصوات، في مواجهة لائحة إئتلاف السلطة، ولم يبقَ من معركة البقاع وجبل لبنان سوى الرضوض والندوب التي تركها المستقلون-اليساريون في جسد الاحزاب التقليدية الحاكمة.. فإنه لن يبقى من معركة الجنوب سوى تلك الاختراقات التي حققها المستقلون والمستقلات لا سيما اليساريون منهم، للوائح الثنائي الشيعي المهيمن.

لكن، وكما في بقية المحافظات فان الانتخابات الجنوبية كانت فرصة لم تكتمل او لم تنفتح تماماً، بحيث تكون صناديق الاقتراع هي المعيار الحاسم لتبديد اللغط الدائم حول الفوارق بين حركة "أمل" و"حزب الله"، على صعيد الشعبية والحضور والبرامج والمشاريع، وتحديد الحجم الفعلي لديناصورات اليسار ومريديهم، وتلمس الافق الممكن للتيار المدني الجنوبي.

كان هذا هو المعنى الأهم لمعركة الجنوب التي لم تجر، او بالاحرى لم تبلغ مداها الكامل..ولم يكن كثيرون يودون ان تجري أصلاً، مخافة ان يتحول التنافس الانتخابي الطبيعي إلى تبادل لاطلاق النار بين جمهور "أمل" وجمهور "حزب الله" ، او ان يسفر البحث عن بقايا اليسار عن مفاجأة غير محببة، او ان يفرز التنقيب عن التيار المدني الجنوبي عن صدمة غير مستحبة أبداً.     

تركت انتخابات الجنوب إنطباعات وخلفت ملامح اكثر، مما إنتجت وقائع سياسية في بيئة كانت ولا تزال تشعر انها مضطرة للبقاء على الجبهة الامامية لكل الحروب المشتعلة في المشرق العربي منذ مطلع القرن الماضي حتى اليوم.. وتظن أن أي معركة إنتخابية هي مجرد ترف غير مباح ، في ظل الاستنفار الذي تلتزم به جميع العائلات-المافيات اللبنانية.