تتغيّر ملامح تركيا السياسية بخطوات متسارعة ومتلاحقة وفقاً لرغبات رجلها القوي رجب طيب أردوغان، الطامح إلى تعديل الدستور لتصبح تركيا الجمهورية البرلمانية التي قامت في العام 1923 دولة رئاسية يتربّع أردوغان على هرم سلطتها. شهدت تركيا في الأيام القليلة الماضية خطوتين كبيرتين تقرّبان أردوغان من تحقيق أحلامه. تمثلت الخطوة الأولى في انتخاب رئيس جديد للحزب وتالياً للوزراء، بحيث يكون فاقداً للكاريزما ومطيعاً لأردوغان إلى أقصى حد. أما الخطوة الثانية فتمظهرت بقرار للبرلمان التركي برفع الحصانة عن كتلة معتبرة من النواب يستهدف الأكراد منهم على وجه الخصوص، بهدف تغيير الموازين داخل البرلمان في إلغاء عملي لنتائج الانتخابات الأخيرة.
رجل أردوغان المطيع
كما هو متوقّع، انتخب أعضاء «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا بن علي يلدريم أمس رئيساً جديداً للحزب خلفاً للمستقيل أحمد داود أوغلو، باعتباره المرشّح المفضّل لرجل تركيا القويّ رجب طيب أردوغان. تقدّم بن علي يلدريم للانتخابات بصفته المرشح الوحيد الحائز على رضا أردوغان، ليصبح رئيساً جديداً للحزب ورئيساً متوقعاً للوزراء. وتتجلى المفارقة في أن مَن سيحدّد صلاحيات مركز رئاسة الوزراء خلال الفترة المقبلة هو رئيس الوزراء نفسه طائعاً مختاراً، كخطوة تمهيدية لتغيير الدستور التركي وفقاً لرغبة أردوغان. بهذا المعنى، يكون انتخاب الأمس انتخاباً لرئيس وزراء جديد وأخير في الوقت ذاته، إذ سيصبح المنصب إما شكلياً أو لاغياً بحسب الدستور الجديد. وفي حين يتكتم أردوغان عن ماهية النظام الرئاسي المرتقب، ومدى صلاحيات رئيس الجمهورية فيه بالاقتراب من نماذج النظم السياسية في أي من فرنسا أو روسيا أو أميركا، إلا أن الأكيد أن أردوغان سيكون لاعبه الأول، إن لم يكن الأوحد، وهو طموح لا يُخفيه أردوغان ولا يحيد عنه.
عقد «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا يوم أمس الأحد، مؤتمره العام الاستثنائي الثاني للتصويت على رئاسة المرشح الوحيد بن علي يلدريم في مكافأة على الولاء والطاعة لأردوغان. وبهذه المناسبة التي أرادها أردوغان احتفالية، أرسل الحزب الحاكم الدعوات لحضور المؤتمر الاستثنائي للحزب، حيث شملت الدعوات الأحزاب السياسية التركية، ما عدا «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي الذي يعتبره أردوغان عدواً. بدأ المؤتمر بكلمة لرئيس الحزب السابق داود أوغلو، والرئيس الحالي بن علي يلدريم، الذي شغل منصب وزير المواصلات والنقل والملاحة البحرية في حكومة داود أوغلو، ومن ثم بدأت عملية التصويت المعروفة نتيجتها سلفاً. وغاب عن المحتفلين المصفقين بشدة، الذين يُشبهون أعضاء الأحزاب الحاكمة في الجمهوريات العربية إلى حد بعيد، عدم وجود ما يستحق الاحتفال أصلاً. فالرئيس السابق للحزب اضطر إلى تقديم استقالته نزولاً عند رغبة أردوغان، وانتخابات الرئيس الجديد شهدت مرشحاً وحيداً وليس عدداً من المرشحين كما يفترض بأحزاب سياسية تموج برؤى وتيارات مختلفة، نزولاً عند رغبة أردوغان أيضاً. كانت مقاعد الحزب الحاكم في البرلمان التركي هي ذاتها من حيث العدد، قبل الانتخابات الاحتفالية وبعدها. ربما يدور أيضاً في خاطر أردوغان «صلاحيات سلطانية» لشخصه في الدستور الجديد، لكن حتى في زمن السلطنة العثمانية كانت هناك أدوار وصلاحيات لمنصب «الصدر الأعظم»، تفوق ما هو متوقع للمنصب بعد التغييرات الدستورية، إن بقي المنصب أصلاً على قيد الحياة في الدستور الجديد.
إلغاء الأكراد من البرلمان التركي
قبيل انتخابات رئاسة الحزب الحاكم بأيام قليلة، جرت خطوة لا تقل أهمية عن تحييد منصب رئيس الوزراء، متمثلة في تغيير التركيبة البرلمانية التركية من دون إجراء انتخابات. صادق البرلمان التركي يوم الجمعة الماضي على قرار برفع الحصانة عن النواب الذين توجد بحقهم مذكرة تحقيق وعددهم مئة وثمانية وثلاثون نائباً، في خطوة تصعيدية جديدة للتضييق على المعارضة الكردية في البرلمان. يمتلك «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي كتلة نيابية قوامها تسعة وخمسون نائباً من أصل خمسمئة وخمسين مقعداً هي كل مقاعد البرلمان التركي، يواجه خمسون منهم مذكرات تحقيق يمكنها الإطاحة بهم خارج البرلمان. وتتمثّل التهم الموجّهة إلى النواب الأكراد في «إهانة أردوغان» و «دعم حزب العمال الكردستاني» المحظور. وكان لافتاً أن القرار المذكور جاء بغالبية ثلاثمئة وستة وسبعين صوتاً، أي ما يتجاوز نسبة الثلثين اللازمة لتحويل القرار إلى قانون من دون المرور باستفتاء شعبي. وصرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن «المواطنين الأتراك لا يريدون بقاء النواب الخائنين للوطن في البرلمان»، في إشارة منه إلى نواب حزب «الشعوب الديموقراطي» الكردي. وأضاف الرئيس التركي في كلمة له أمام حشد من المواطنين في ولاية «أرتفين» شمال تركيا، أول من أمس السبت، أن «موافقة البرلمان على رفع الحصانة البرلمانية عن النواب الداعمين للمنظمات الإرهابية، هو بمثابة تنفيذ لخيار الشعب التركي».
ولم يغِب عن المتفحّص أن أغلب نواب «حزب الشعب الجمهوري» العلماني و «حزب الحركة القومية» اليميني المتطرف أيّدوا مشروع القانون، ما يعني أن الاستقطاب القومي التركي - الكردي، الذي يستدعيه أردوغان خدمة لأجندته السياسية قد بلغ أوجه. في المقابل، اعتبر نائب رئيس الحزب الكردي نظمي غور أن القرار يعني أن «البرلمان مخصّص للأتراك فقط، وأن الأكراد وباقي الأقليات لا يملكون الحق في التمثل فيه». ورأى القيادي الكردي أن القرار «سيقود حتماً إلى زيادة العنف الحادث حالياً في جنوب شرق تركيا»، معتبراً أن أردوغان «لا يملك حلاً للمسألة الكردية ولا يقدّم رداً ديموقراطياً على مطالبنا». أما زعيم الحزب صلاح الدين دميرطاش، فقال «إذا انتهى النواب الأكراد في السجن، فسوف يتحوّل الشباب واليساريون إلى العنف والتطرف».
استخلاصات أولية
أولاً: يدل عمق الصراع الداخلي في تركيا والخطوات المتلاحقة لتغيير الدستور وملامح النظام السياسي أن تركيا خلال الشهور القليلة المقبلة ليست في وارد توسيع دائرة الاشتباك في جوارها الجغرافي، إلا للتصعيد المتقطع ضد الأكراد في العراق وسوريا بهدف التخديم المحسوب على التصعيد المبرمج ضد الأكراد داخل تركيا.
ثانياً: يملك أردوغان ناصية القرار منفرداً في «حزب العدالة والتنمية»، ويستطيع استبدال رئيس الوزراء بآخر بسهولة نسبية، ما يعني أن الحزب الحاكم مصطفّ حتى الآن وراء شخص أردوغان ولا يوجد تهديد من أي نوع لزعامته داخل الحزب في الوقت الراهن. والدليل الأبرز على ذلك إجبار داود أوغلو على الاستقالة وتسمية مرشح وحيد لرئاسة الحزب من دون اعتراضات حزبية.
ثالثاً: أفلح أردوغان في تسييد الاستقطاب القومي على الساحة السياسية التركية بدلاً من الاستقطاب السياسي الطبيعي بين اليمين واليسار، والدليل هنا السلوك التصويتي على قرار رفع الحصانة عن النواب في البرلمان. ففي حين اعترض نواب «حزب الشعب الجمهوري» العلماني على تصريحات رئيس البرلمان إسماعيل قهرمان الخاصة بدستور إسلامي جديد لتركيا، إلا أنهم لم يعترضوا بالحدّة نفسها على مشروع قانون رفع الحصانة. ويعني ذلك أن المراهنة على «كتلة يسارية» تشمل «حزب الشعب الجمهوري» العلماني و «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي في مواجهة «كتلة اليمين التي يمثلها «حزب العدالة والتنمية» الحاكم مع «حزب الحركة القومية» المتطرف، لا تستند إلى واقع في المشهد السياسي التركي الحالي.
رابعاً: ستتمثل الخطوة المقبلة لأردوغان على الأرجح في استغلال المحاكمات المرتقبة لأعضاء البرلمان من الأكراد لتحصين الحزب الحاكم ضد أي خسارات محتملة في الانتخابات المقبلة، حيث يأتي الحزب الحاكم ثانياً في جنوبي شرق تركيا، حيث معاقل الأكراد. وبالتالي، في حال محاكمة النواب الأكراد واستبعادهم من البرلمان وعقد جولة انتخابية قادمة، ستُضعف فرص الحزب الكردي في التمثل بأي برلمان مقبل، ما يُترجَم ربحاً صافياً لأردوغان وحزبه الحاكم. وهنا يُتوقّع أن يزداد التوتر في جنوب شرق تركيا باضطراد مع تقدم عملية المحاكمات وإقصاء النواب الأكراد من البرلمان.
خامساً: خطوات أردوغان التصعيدية وغير الديموقراطية لا تخلو من حسابات سياسية تتعلق بالتوازنات، حيث لا يريد أردوغان الذهاب إلى حظر الحزب الكردي بقرار من المحكمة الدستورية، لأن فتح ذلك الباب سيجعل حزب «العدالة والتنمية» الحاكم نفسه معرضاً للحظر، خصوصاً أن تهمة «تعريض النظام العلماني في تركيا للخطر» يمكنها نظرياً الإطاحة بالحزب الحاكم أيضاً. وكانت تجربة العام 2008 حين وُجّهت للحزب الحاكم التهمةُ أعلاه في المحكمة الدستورية قد وضعت الأخير في موقف صعب خرج إثره من الاتهام في المحكمة الدستورية بفارق صوت واحد. بالتالي، يريد أردوغان تقويض الحزب الكردي بالمحاكمات والطرد من البرلمان من دون حظر الحزب على خلفية ذلك الاعتبار.