على طول الحدود مع فلسطين، تكاد رايات حزب الله وشعاراته تختفي على امتداد الشريط الشائك الفاصل مع الأراضي المحتلة. منذ تحرير الجنوب عام 2000 وحتى الأمس القريب، كان الحزب قد اجتاح الحدود حزبياً وإعلانياً ولم يترك زاوية فيها إلا وحاول استفزاز العدوّ فيها.
كان مشهد الرايات الصفراء على امتداد الحدود، جزءاً من الحرب النفسية مع العدو وجنوده المتمترسين في الجهة المقابلة، بالإضافة إلى كونه يحمل تأكيداً واضحاً على كون الحزب يفرض سيطرته على هذه البقعة ليس فقط عسكرياً بل شعبياً واجتماعياً. لكن اليوم لا شعارات للحزب ولا رايات صفراء، إذ سيطرت حركة أمل برئاسة رئيس مجلس النواب، نبيه بري، على معظم المساحات المخصصة لرفع الشعارات السياسية قبالة الشريط الشائك. حتى عند "بوابة فاطمة" التي كانت محطة تجمّع لإلقاء نظرة عن كثب إلى فلسطين، ونقطة تجمّع سياحية وسياسية ورمزية، اجتاحتها "الحركة" أيضاً. فيمتدّ مشهد سيطرة "أمل" على الحدود بين القرى الحدودية في قضاء مرجعيون، من كفركلا إلى حولا، مروراً بالعديسة والطيبة ومركبا وغيرها، باستثناء محطة واحدة في العديسة حيث ترفع صورة للأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله.
"
معارضو ثنائية حزب الله ـ أمل حازوا نسبة تصويت تتراوح بين 35% و40%

"
قد يكون انحسار عمل حزب الله عن خوض هذه الحرب النفسية مع إسرائيل مردّه إلى كون هذه الحرب قائمة في إطلالات نصر الله، واستمرار حزب الله في أعماله الأمنية. لكن ما يمكن قوله في هذا الإطار أيضاً، أنّ انسحاب حزب الله "إعلانياً" عن الحدود مع فلسطين (أي إزالة معظم أعلام حزب الله واللافتات عن الشريط الحدودي) يعود أيضاً إلى كون الحزب قد ترك هذه الحدود منذ عام 2012 ونقل كل جهوده العسكرية إلى سورية، مع العلم بأنّ عنوان "الحرب على التكفيريين في سورية" كانت جزءاً من المعركة الانتخابية التي خاضها الحزب ومعه حركة أمل في الانتخابات البلدية في الجنوب.


جاءت نتائج هذه الانتخابات لتحمل معها الكثير من المفاجآت والدلالات في مدن الجنوب وبلداته. وبانتظار صدور الأرقام الرسمية عن وزارة الداخلية والبلديات، تشير النتائج، الصادرة حتى الآن، إلى تسجيل خروق كثيفة في لوائح المرشحين على لوائح "التنمية والوفاء" البلدية، أي لوائح التحالف بين حزب الله وحركة أمل. وتمّت هذه الخروق في مناطق مختلفة من الجنوب، وضمن جميع الأقضية، التي تمكّن معارضو ثنائي "الحزب والحركة" من خوض المعارك فيها. كما تشير الأرقام أيضاً إلى أنّ القوى اليسارية، في طليعتها الحزب الشيوعي، والشخصيات المستقلة، تمكّنوا من الحصول على ما يتراوح بين 35 في المائة و40 في المائة من مجمل أصوات الناخبين حيث وقعت المعارك الانتخابية في الجنوب، ويعني ذلك أنّ مناطق الجنوب انتفضت على هيمنة ثنائي حزب الله وحركة أمل، وعبّرت كما باقي المحافظات اللبنانية حيث جرت الانتخابات البلدية (بيروت، البقاع، جبل لبنان)، عن رفض سلطة الأحزاب ورغبة الناس في إحداث تغييرات على مستوى سيطرة الأحزاب على القرار السياسي والاجتماعي. حتى أنّ مسؤولين سياسيين في الحزب والحركة، لم يتردّدوا في الإشارة إلى "وجود تململ بين الناس نتيجة الواقع العام في البلاد على المستويات كافة". وهو الأمر الذي دفع أساساً محسوبين على الثنائي إلى مواجهة القرار الحزبي والترشّح بوجه لوائح "التنمية والوفاء" من دون حتى وجود أي اختلاف سياسي، مما يوحي بأنّ تغييراً ما حصل أيضاً حتى في البيئة الحاضنة لحزب الله وحركة أمل، تحديداً في ما يخص إدارة القرارات المحلية وفضح الفساد.


وقد سعى "الثنائي" إلى التجديد لعدد كبير من المرشحين، الذين فشلوا في إدارة البلديات أو متورّطين بشكل مباشر في عمليات فساد، وهو ما يؤكّد تورط الثنائي في الفساد على الرغم من السعي دائماً من جهة حزب الله إلى إظهار نفسه مختلفاً عن المنظومة الحزبية الحاكمة والمتحكّمة بالسلطة. كما أنّ معارضة بيئة الحزب والحركة لمرشّحي الثنائي جاءت أحياناً من باب العائلية، وهو ما يُشير إلى فقدان الطرفين لقدرة التحكّم بالناس وخياراتها ولجهة ضبط المناصرين.

ويبقى الأهم، سياسياً، أنّ هذا التراجع الحاصل في الواقع الانتخابي البلدي في صفوف تحالف حزب الله وحركة أمل، تمّ على الرغم من عوامل كثيرة لجأ إليها الثنائي لضمان اكتساحه بلديات الجنوب. فخاضت لوائح "التنمية والوفاء" معاركها الانتخابية بدءاً بشعار "مقاومة إسرائيل" و"محاربة التكفيريين"، وهو أمر كفيل بوضع الضغط على أي منافس سواء كان فرداً مستقلاً أو حزباً منظّماً. وحاولت هذه اللوائح أيضاً استخدام صور "الشهداء" في معاركها الانتخابية، الأمر الذي ترك نفوراً بين الناس لما في ذلك من "ابتذال" في منافسات محلية وبلدية.
"
حصل تغيير ما أيضاً حتى في البيئة الحاضنة لحزب الله وحركة أمل

"

كما لجأ الثنائي أيضاً إلى التزوير المباشر خلال عمليات الاقتراع والفرز في عدد من البلدات، وهو ما وثّقته "الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات" (LADE) في تقرير أولّي تضمّن تسجيل 509 مخالفات خلال اليوم الانتخابي في الجنوب. ومن بين هذه المخالفات، محاولة نشر الفوضى عند نقل صناديق الاقتراع أو خلال الفرز، وقطع التيار الكهربائي خلال عمليات الفرز، إطلاق النار بالقرب من مراكز الاقتراع ونشر للمسلحين في محطيها، منع مندوبين من اللوائح المنافسة من المشاركة في الفرز، إضافة إلى خروق أخرى للقانون الانتخابي وبديهيات العمل الديموقراطي كالسماح بإعلان انسحاب المرشحين وإتمام التزكية قبل ساعات من الانتخابات (يشير القانون إلى وجوب تسجيل الانسحابات رسمياً قبل خمسة أيام من موعد الانتخابات).

كل هذه الأجواء والقراءات والخلاصات تشير إلى أنّ هيمنة حزب الله على الحياة البلدية واليومية للناس في الجنوب قد انكسرت، أو طرأت عليها تعديلات واضحة بين الناس، مع العلم بأنه حتى بصدور ما يشبه "التكليف الشرعي" عن قيادة حزب الله ودعوة أمينه العام، حسن نصر الله، الجنوبيين إلى المشاركة بكثافة في الانتخابات، لم تتخطّ نسبة الاقتراع الخمسين في المائة، وهو رقم يعبّر أيضاً عن مزاج شعبي يشعر بأنه غير معنيّ بهذه المعارك الانتخابية أو غير راضٍ عنها لكن يعجز عن التعبير في صناديق الاقتراع.

أما في صيدا، فقد كرّس تيار المستقبل سيطرته على المدينة بالتحالف مع "الجماعة الإسلامية" وآل البزري، وتمكّن من التقدّم بشكل مريح على منافسيه من اللائحة المدعومة من النائب السابق، أسامة سعد، وتلك المحسوبة على متشدّدين من الطائفة السنية. أما في جزّين، فقد كرّس التيار الوطني الحرّ سيطرته على القضاء (ذي الأغلبية المسيحية)، من باب الانتخابات النيابية الفرعية التي جرت لملء شغور المقعد النيابي بوفاة النائب ميشال حلو. نجح مرشّح التيار، أمل أبو زيد، المدعوم أيضاً من القوات اللبنانية، بالفوز بالمقاعد النيابية بفارق توسّع لأكثر من خمسة آلاف صوت. لكن المفاجأة كانت في الانتخابات البلدية، إذ تم اختراق لائحة تحالف التيار والقوات في الانتخابات البلدية في جزين بثلاثة مقاعد من أصل 18 مقعداً. وكان لافتاً في هذا الإطار، خسارة رئيس لائحة التيار والقوات، الأمر الذي يشير إلى وجود الكثير من التشطيب بين أنصار رئيس تكتل التغيير والإصلاح، النائب ميشال عون، ورئيس القوات، سمير جعجع.