لم تنته المغامرة، لكنها تقترب من نهاياتها المحتمة. الجنازات المتلاحقة دليل لا يدع مجالا للشك في ان حقبة تزيد عن نصف قرن شارفت على الختام، على  إسدال الستارة على فصل  صاخب من تاريخ شيعة لبنان، حفل  بالانتصارات  والانكسارات،وها هو  يختزل بمواكب التشييع  لجيل لم تكن الكرة الأرضية تتسع لأحلامه "الثورية"ولم تكن الحدود الدولية تكبح طموحاته الأمنية.

لعله الثمن الباهظ للحرب الاهلية اللبنانية ولتجربتها الفلسطينية التي إستهوت الشيعة اللبنانيين أكثر من أي طائفة لبنانية أخرى وجرفتهم في جحيمها، قبل ان يكتشفهم المستثمر السوري والإيراني ، ويعجب أشد الاعجاب بحماستهم المنقطعة النظير  وإستعدادهم الدائم للتضحية بلا حساب، ويقرر تحويلهم  من فرقة ناجية من تلك الحرب الى فرقة ميتة في حروب لا تخضع لأي ضوابط أو قيود.

 كانت المقاومة للاحتلال الإسرائيلي تأسيساً واجباً لتلك المغامرة، لكن أساليب الاستثمار في الداخل اللبناني والعربي والدولي أيضا ، تبدلت مع مرور الزمن الذي أعقب التحرير في العام 2000 ، حتى جاءت الحرب السورية لتعيد المقاومة الى أصلها الأول والى  دورها الأساس، وتحطم صورتها المكتسبة خلال فترة الصراع مع العدو.

المقاومة نفسها تجاهر الان ان الحرب في سوريا هي الاصل والمواجهة مع إسرائيل هي الفرع. وهو ما لا يبدو تفصيلاً عابراً في مسيرة بدأ التخطيط لها في طهران في مطلع ثمانينات القرن الماضي فيما تولت دمشق بدقة متناهية الاشراف والتنفيذ، حتى صار من الصعب التمييز بين الاستثمارين السوري والإيراني  وأولوية كل منهما في تلك التجربة التي تعاقبت فيها التضحيات والخدمات التي قدمها ذلك الجيل الشيعي الخارج للتو من رحم التجربة الفلسطينية، لكل من المستثمر الإيراني والسوري، في صراعهما أو في حوارهما مع اميركا وإسرائيل.

هي من مصادفات القدر ان تكون دمشق هي الشاهدة على الولادة، والشاهدة على الخاتمة فقد بلغ الاستثمار السوري  في تلك التجربة الأمنية الشيعية اللبنانية حده الأقصى، وكذا الاستثمار الإيراني الذي بات يصعب عليه  اليوم أن يطلب على سبيل المثال خطف رهائن أجانب او تفجير عبوات ناسفة بالشيطان الأكبر  ، من أجل تحرير  الودائع في نيويورك او تحريك الأرصدة المالية في بيروت.

العالم الذي كان في ما مضى رحباً شاسعاً  يتيح شتى أنواع المناورات والمشاغبات، يضيق اليوم  على المستثمر السوري والإيراني، ويكاد يخنقهما. القرابين التي قدمها  شيعة لبنان  وما زالوا يقدمونها بلا تردد او تفكير ، تكاد تفوق القدرة على الاحتمال. هي لن تتوقف ، طالما  انها صارت من عناوين البقاء والوجود، التي لم تطرح يوماً في الصراع مع العدو الإسرائيلي (مع انها واردة فعلا) لكنها تغذي  اليوم إحساساً دفيناً بان الطائفة تشارك في حرب أكبر منها بكثير ، يمكن ان تصبح قربانها الأبرز وربما الأوحد.

لا مفر من تلك الحرب الختامية،المستثمر السوري الإيراني الذي لم يجر يوما أي إحصاء إنساني لعدد الضحايا اللبنانيين، لن يجري اليوم مثل هذا الإحصاء ، طالما أنه يقدم ، وللمرة الأولى منذ تأسيس تلك الفرقة الانتحارية اللبنانية، معدلاً موازياً من الضحايا السوريين والإيرانيين الذين يسقطون اليوم في سوريا منذ خمسة أعوام ونيف، مثلما كان يسقط اللبنانيون منذ خمسة عقود ونيف .

لا مخرج من تلك الحرب ، هذا ما يقوله المستثمر السوري والإيراني لجمهوره، وهذا ما يعرفه ويردده الجمهور اللبناني الشريك ،الذي ربما راودته في فترة من الفترات أحلام العثور على ملاذ لائق من  جبهات القتال السورية  يحفظ ماء الوجه ، لكنه بات اليوم في مأزق . النصر مستحيل والهزيمة أيضاً. لا خيار سوى   المضي قدما حتى تتم الرؤية، أو الشهادة.

كان مصطفى بدر الدين رمزاً يختزل في شخصه وفي تجربته وفي مسيرته وفي مصرعه تلك المغامرة الشيعية اللبنانية التي ضربت الأفاق  وخرقت حدود الدول والاوطان ، قبل ان تنتهي في دمشق بالذات ، المهد واللحد، والمثوى الأخير  لجيل إمتهن الحرب ولم يعرف لها بديلاً.