في الجولة الأولى من الانتخابات البلدية في لبنان، سخِر اليساريون الممانعون من لائحة «بيروت مدينتي» ووجهوا إليها سهام التجريح والإهانة أكثر مما فعلوا في اتجاه لائحة «البيارتة» الموسومة بالنيوليبرالية وبتمثيلها تحالف السلطة الفاسدة.

 

 

وفي بلدان الثورات العربية يقف اليسار التقليدي إلى جانب كبح التحركات الشعبية وقمعها بذريعة مساندة العلمانية والتقدم على الجماهير المعبأة إسلامياً، أو بكلمات ثانية ورائجة منذ الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينات «العسكر ولا الإسلاميين». ويصل الأمر إلى حدود المهزلة في تطوع شيوعيين يتوزعون على فئات ستالينية وماوية (على غرار جماعة ميراج أورال/ علي الكيالي) للقتال إلى جانب نظام بشار الأسد بذريعة التصدي للإرهاب التكفيري.

 

 

لا شيء يعجب اليساري الممانع ولا شيء يريحه أكثر من الركون إلى الوضع القائم ما دام التغيير لا يسير وفق تصوراته. وبعد أعوام من اعتناق يساريين «نبض الشعب» إلى الحد الذي حملهم نحو تأييد الخمينية واعتبارها رداً جماهيرياً على محاولات الاستلاب والتغريب السياسي والثقافي، يقف يساريو الممانعة اليوم في الموقف النقيض، بتمسكهم برؤية جليدية لواقع يغلي.

 

 

ما الذي يجمع بين انتقاد لائحة انتخابية بلدية في بيروت وبين تأييد نظام المجازر الجماعية وقصف المستشفيات ومخيمات اللاجئين في سورية؟ تجوز الإشارة إلى عنصرين ظاهرين وثالث باطني. العنصر الأول، يقوم على الشك الأصيل عند يساريي الممانعة بكل تحرك يأتي من خارج منظومتهم النظرية والشللية سواء بسواء. وعند الفشل في استيعاب هذا التحرك وتطويعه تبدأ حملات التخوين والتجريح. ولم تمض أشهر بعد على هذا السلوك الذي سلكه يساريو الممانعة اللبنانية، عندما شككوا بالحراك المدني في الصيف الماضي ثم سعوا إلى اختراقه قبل أن ينشبوا أظافرهم في خصومهم الذين رفضوا السير في ركابهم.

 

 

العنصر الثاني، هو الاحتقار العميق عند يسار الممانعة لرأي «العامة» و «الدهماء» المضللين الذين يجب أن يستشيروا أشخاصاً قرأوا تجارب الثورات العظيمة وأن يلتزموا بما يقرر هؤلاء. أما إذا قرر اليساريون الجمود، فعلى التاريخ بأسره أن ينتظر انتهاء قيلولتهم. وعلى عكس كل الرطانة «الديموقراطية الشعبية»، يضمر ممانعو اليسار كراهية مرَضية لمن يخالفهم الرأي من الفقراء، خصوصاً إذا لم يكونوا من حملة الشهادات العليا.

 

 

العنصر الثالث، الباطني، يتأسس على الخلفية الاجتماعية التي جاء هذا اليسار منها، فعلى الرغم من طروحات «الجماهيرية» وتمثيل مطالب الفئات الشعبية التي تشكل الأكثرية الساحقة من سكان هذه المنطقة، يدمج اليساريون الممانعون بين انتماء العديد منهم إلى أقليات طائفية وعرقية وبين فكرة «الطليعة» اللينينية المخولة قيادة الشعوب على طريق التحرر والانعتاق من نير الاستغلال.

 

 

وليس سراً ولا كشفاً أن الأحزاب العقائدية، من «البعث» إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي مروراً بالأحزاب الشيوعية، تأسست في إطار البحث عن حلول سياسية لمشكلات الأقليات في المشرق العربي، وأن الحيوية التي أظهرتها هذه الأحزاب ومساهماتها الكبيرة في مجالات الثقافة والفنون ترتكز أساساً على هموم الأقليات الساعية إلى ضمانات لوجودها وحقوقها. وهي هموم ما فتئت تتسع وتتعمّق حتى ابتلعت الأحزاب وظهرت صريحة، على ما نشهد اليوم.

 

 

بيد أن كل هذا لا يلغي مشاعر الريبة والقلق عند اليساري الممانع المعدوم الثقة بنفسه والكاره للعامة والجماهير الذين يذكّرونه عند كل التفاتة منه بحجم الكذبة التي لم يعد مقتنعاً بها غير شخصه الكريم.