يمكن إيراد الكثير من الملاحظات على انتخابات بيروت المحلية، وما شهدته من تحالفات ومن بروز أوّل محاولة "مدنية" إصلاحية جدّية منذ أكثر من عشر سنوات مثّلتها "بيروت مدينتي".


من هذه الملاحظات، أنّ لائحة قوى السلطة التي قادها رئيس تيّار المستقبل وجمعت مرشّحيه الى جانب مرشّحي حركة أمل والقوات والكتائب والطاشناق وبعض التيار العوني وحظيت بدعم جزء من ناخبي حزب الله والحزب التقدمي لم تنجح في جذب أكثر من 50 في المئة من أصوات المشاركين في الانتخابات، الذين لم يتخطّوا نسبة الـ20 في المئة من مجموع الناخبين المسجّلين في بيروت، أي أنّها حصلت على أصوات 10 في المئة من أصوات "البيارتة" الذين ادّعت تمثيلهم. وفي هذا فشل ذريع يشبه فشل القوى إيّاها التي سبق وأدارت بلدية العاصمة خلال السنوات الماضية، فأنتجت أزمات النفايات والتلوّث والتعدّي على الشاطئ وعلى التراث المعماري لبيروت.

من هذه الملاحظات أيضاً، أن "بيروت مدينتي" التي ضمّت أهل اختصاص وعمارة وفنّ ونشاط مدني، والتي قدّمت على عكس قوى السلطة لائحةً يتساوى فيها تمثيل النساء والرجال وتتنوّع فيها الأمزجة وتتدنّى الأعمار، حصلت على قرابة ثلث أصوات المشاركين، وتقدّمت على لائحة قوى السلطة في منطقة الأشرفية، ونافستهم منافسة شديدة في منطقة رأس بيروت، وحصلت على نسب معقولة في مناطق أُخرى. أي أنها تقدّمت في المناطق المسيحية (غير الأرمنية) وفي مناطق الاختلاط والطبقة المدينية الوسطى، إضافة الى اعتمادها أساساً على تصويت الجامعيين والفئات الأكثر تعلّماً من مختلف الطوائف.

من هذه الملاحظات كذلك، أن النظام الانتخابي المعتمَد في لبنان إن على صعيد المجالس المحلية أو على صعيد المجلس النيابي، هو نظام متخلّف لجهة عدالة التمثيل، إذ يقوم على مبدأ الأكثرية البسيطة في دوائر واسعة. وفي هذا ما يمنع تجديد النخب ويقلّص مستوى المشاركة، ذلك أننا لو اعتمدنا نظاماً نسبياً مثلاً لكان ثلث أعضاء المجلس البلدي من مرشّحي "بيروت مدينتي"، وفي الأمر تجديد من ناحية ومنع احتكار 50 في المئة من الناخبين لكامل المقاعد البلدية من ناحية ثانية. 

وبالنسبة للمشاركة في الاقتراع، فإن النسبية تضمن ارتفاعها، لأن الناخبين لا يكتفون باعتبار الفوز أو الخسارة مضمونين فيتمنّع أكثرهم عن المشاركة على اعتبار الأمور محسومة. بل يصبحون جميعهم معنيّين بهذه المشاركة ليضمنوا للوائحهم النسب الأعلى من الأصوات التي تُتيح الوصول بأحجام موازية الى المجالس المُنتخَبة.

ومن هذه الملاحظات أخيراً وليس آخراً، أن قضية التصويت مكان السكن ودفع الضرائب والاستفادة من الخدمات هي ألف باء التصويت المحلّي- البلدي، وأن حجب ذلك عن اللبنانيّين ودفعهم الى التصويت حيث سجلّات قيدهم وحيث زياراتهم غالباً ما تقتصر على التعازي و"مشاوي الويك-إند" هو انتهاك لحقوقهم المواطنية وهو تكريس لمنطق عصبيات جهوية وطائفية تستفيد منها قوى وزعامات على حساب فلسفة المواطنة والعمل المحلّي وإدارة المصالح العامة.

في الخلاصة أن جولة الانتخابات البلدية الأولى، في ما يخصّ عاصمة لبنان بيروت، ظهّرت حجم تراجع معسكرَي 8 و14 آذار شعبياً، ومهزلة استمرار التعبئة السياسية على أساسهما، دون أن يعني الأمر نهايتهما أو استحالة استنهاضهما بعض الفئات المعتكفة اليوم إن أعادا رفع وتيرة الشحن المذهبي والمظلومية الطائفية.

وظهّرت الانتخابات أيضاً إمكانية بروز ديناميات مدنية اعتراضية على السائد بجناحيه، تطرح البدائل السياسية بشجاعة وتخوض المواجهة المواطنية على أساسها. ويُسجّل لـ"بيروت مدينتي" أنها نقلت الأمر هذا من الحيّز النظري أو الافتراضي الى الحيّز التطبيقي والواقعي. فشكراً لمرشّحيها وناشطيها ومؤيّديها، وشكراً للـثلاثين ألف مواطن الذين منحوها أصواتهم ومنحونا جرعات تفاؤل وأمل.

 

المصدر: ناو