لا مبرر أبداً للبكاء على الاطلال، ولا حاجة طبعاً للسير في جنازة الحراك المدني، الذي خاض أولى معاركه السياسية بنجاح نسبي وحقق إنجازاً مفاجئاً فعلاً. لم يفز  في الانتخابات البلدية في دورتها الأولى في بيروت والبقاع ، لكن النتائج التي تأخر صدورها اكثر بكثير مما يمكن أن يبدد شكوك التلاعب وشبهات التزوير، لم تسفر عن فضيحة، كما هو شائع الان، للائحة "بيروت مدينتي" التي كانت العنوان الرئيسي للتحدي المدني الأول والأهم للطبقة السياسية.

كانت انتخابات جدية بلا أدنى شك. لكنها كانت غير متكافئة بالمرة. إئتلاف السلطة الذي تجاوز صراعاته الطائفية وخلافاته السياسية الجذرية حول كل شيء، إستنفر بكامل قواه لمواجهة الخطر الداهم الذي يمثله تيار مدني مبتدىء في العمل السياسي، يعبر عن مزاج شعبي متمرد، اكثر مما يعبر عن تيار سياسي صاعد، سبق ان أشعل معركة النفايات التي هزم فيها، وتعرضت صفوفه للتشتت والضياع.

كان إستنفار السلطة وتواطؤها وسلوكها دليلاً دامغاً على شعورها العميق بالخوف. وهو إنجاز أولي بسيط يحسب للتيار المدني، الذي يمكن الزعم أنه صار حالة شعبية كامنة يتردد صداها في كل مكان من لبنان، ولعل تجربة الانتخابات البلدية أكسبتها جاذبية إضافية، بإعتبار  أنها تمتعت بالجرأة للدخول في مواجهة مباشرة مع تحالف جمع ،بشكل نادر، الأركان الرئيسية للنظام اللبناني الذي يعد واحداً من أقدم الأنظمة العربية وأقواها وأشدها رسوخاً وتجذراً.

كسب تحالف النظام الانتخابات، لكنه لم يحقق نصراً ساحقاً، يلغي التحدي المدني او حتى يحبطه. فارق الأصوات لم يكن شاسعاً. ما بين 47 ألف صوت للائحة السلطة و34 الف صوت للائحة "بيروت مدينتي "، ثمة ما يستدعي التوقف عن النحيب، والرهان على أنه مجرد إختبار أول، مسيرة عفوية، جرت الدعوة اليها على عجل، وكُتب برنامجها بتسرع، وصيغت شعاراتها بلا  تعمق..بحيث ظهر بعضها وكأنها تقليد ممل لبرنامج لائحة السلطة، مع العلم بان بلدية بيروت، هي بالفعل مغارة علي بابا، التي كان يمكن ل"بيروت مدينتي" ان تتعهد فقط  بفتح ملفاتها على الملأ ، وتحويلها الى القضاء، وان تعد فقط بالعلنية  والنزاهة في إدارة تلك المؤسسة العريقة بالفساد والفوضى، بدلا من التلهي بالكلام عن الحدائق والطرقات والنفايات وحتى التوظيفات.

 مع ذلك، فإن رقم ال34 ألفاً ليس بسيطاً أبداً، ولن يكون عابراً في سياق تلك المواجهة المدنية، التي بدأت للتو مع السلطة المتسلطة على مختلف مقدرات البلد. بضعة أشهر فقط من عمر التحرك المدني لا تكفي لتحقيق النصر او حتى الاختراق. لم يكن أحد لديه هذا الوهم، لكن كثيرين ما زال لديهم هذا الحلم الجذاب فعلا لشرائح واسعة من الجيل الجديد، ليس فقط في بيروت، بل على امتداد الجمهورية كلها.

الاختراقات التي تحققت في البقاع متواضعة جداً، لكنها واعدة جداً، وقد كانت تحالفات السلطة أشد دهاء في تشكيل اللوائح وفي استدعاء الأسماء المدنية الشابة. هي مثل معركة بيروت، خطوة تجريبية أولى على طريق طويل، يشقه شبان وشابات خرجوا فعلا من ثقافة الحرب الاهلية ومن تجربتها وقرروا تحدي النظام اللبناني، ومعه مختلف الأنظمة العربية الحليفة والشريكة له التي تتعرض الان لهزات عنيفة لن تكون نتيجتها سوى السقوط.

ثمة وعي جديد يتشكل في لبنان، ثمة وعد جديد يتبلور أيضاً. من الظلم بمكان إستنتاج الهزيمة الساحقة، او الضربة القاضية للتيار المدني في بيروت او بقية انحاء لبنان. الانتخابات البلدية هي مجرد تجربة بسيطة دبت الذعر فعلا  في أركان النظام، وقدمت تفسيراً عملياً لواحد من  أهم أسباب الامتناع عن إجراء انتخابات نيابية، او التشدد في رفض إقرار قانون انتخابي عصري يليق باللبنانيين، او التعثر في إجراء انتخابات رئاسية طبيعية.

يمكن البناء على تلك التجربة، او بالأحرى ، ليس هناك من بديل للبناء على أولئك ال34 ألف ناخب بيروتي الذين توجهوا الى صناديق الاقتراع في واحد من أهم وأرقى أشكال التحدي للنظام، الذي لم يسقط في الحرب ولن يسقط في السلم ، لكنه يمكن ان يسقط بالقليل من الذكاء والصبر .