إذا كانت واحدة من أبرز علامات الإنسداد في الحياة السياسية اللبنانية، هي ما اصطلح عليه بـ "التوريث السياسي " بحيث يرث الإبن أو البنت أوالزوجة الزعامة السياسية والمقعد النيابي ورئاسة الحزب، ويتحول بقدرة قادر إلى زعيم كامل المواصفات بعد أن شاءت الظروف والأقدار أن ينسلخ للتو عن مقعده الدراسي أو حتى أن يؤتى به من بين أترابه الأولاد الذين كان يلعب معهم ويتسكع في المقاهي الليلية قبيل رحيل الزعيم الأب أو الزوج.

فإذا كان نفس التوريث السياسي أمر مستهجن ودليل تخلف إلا أن المصيبة الأكبر لا تكمن هنا فقط، بل ولعل ما هو أفجع يأتي بعد التسليم الجدلي بأحقية الوريث بالجلوس على العرش السياسي للمورث، فيصبح التعاطي مع القادم الجديد على أنه امتداد طبيعي " جيني " عن المرحوم بدون أي مراعاة لا للظروف الموضوعية ولا حتى للفارق الطبيعي بين الإمكانيات الذاتية لهذا وذاك.

فيمارس الولد نشاطه السياسي ومواقفه اليومية ويسقطها على أنها من مواقف الوالد، والأدهى أن الجمهور يكاد لا يلتفت إلى هذا الفارق الجوهري، ويستمر بمقاربة الأحداث والمواقف على أنها ناتجة عن الأب حتما بدون حتى الحاجة إلى الرجوع للأسس والسياقات التي كانت معتمدة في زمن وجود الأصيل والمذهب المتبع في حينه والعناوين الكلية والتفصيلية التي كانت تميز مواقف الوالد .

هذه الحالة يمكن تعميميها على جميع الورثة وعلى معظم الجماهير المأخوذة كجزء من تركة المرحوم، فمواقف وليد جنبلاط مثلا ومنذ اليوم الاول لاستلامه الزعامة لا يمكن مقاربتها من قبل جمهور الحزب التقدمي إلا كونها متطابقة تماما وبدون أي زيادة أو نقصان كما لو أنها صادرة مباشرة من الزعيم الشهيد كمال جنبلاط، وكذلك الحال هي مواقف سليمان فرنجية أو نبيه بري كوريث للامام الصدر وحامل أمانته، أو ميشال معوض أو وأو .

وهكذا هو الحال بالنسبة إلى سعد الحريري، فجمهور المستقبل إن لم نقل معظم محبي ومعجبي الشهيد رفيق الحريري يقاربون خيارات الرئيس سعد الحريري على أنها حتما هي خيارات الشهيد، ومواقف الشهيد، ورأي الشهيد، وطموحات الشهيد ويتحول أي اعتراض عليها أو الوقوف في وجهها وكأنه اعتراض على مشروع الشهيد نفسه!

ولكن بالرجوع ولو سريعا إلى أصالة العناوين التي تركها الشهيد رفيق الحريري وغير القابلة بدورها للتوريث لأنها ملك كل مريديه بدون أي استثناء ولا تدخل ضمن ثروته الخاصة وهي في متناول الجميع، لأمكن القول أن رفيق الحريري المؤسس الأول للمجتمع المدني في لبنان ما بعد الحرب واعتماده الأساسي على الطاقات الشبابية الواعدة وغير المنخرطة بالعمل الحزبي بالمعنى الضيق للكلمة، وابتعاده الكلي في تشكيل لوائح البلدية عن الإسقاطات البيروقراطية ومحاولاته الحثيثة للفصل بين العمل الإنمائي المحض والشأن السياسي الضيق بالخصوص على مستوى بلدية بيروت، وما كان يلاقيه يومها من تحديات وسهام تصيب رؤيته الإنمائية للمدينة التي عشقها،من قبل الأحزاب التي كانت تصر بدورها وبوحي من الوصايا السورية على الإمساك " السياسي " بالقرار الإنمائي لا لشيء إلا لتمرير الصفقات المشبوهة واستغلال المال العام .

فقط لو قاربنا ما يجري هذه الأيام من تباين على مستوى تركيب اللوائح البلدية،والفارق بين لائحة أحزاب " البيارتة " وبين ما كان يعانيه الشهيد أيام الوصاية ومحاولاته المستعصية لإشراكه واعتماده الأساسي على الطاقات الشبابية للمجتمع المدني الذي علمه ودربه وثقفه وزرع حب بيروت كما كل لبنان حتى صار يسري هذا الحب في الشرايين وبدون أي اعتبار للمصالح الحزبية فضلا عن الحسابات الشخصية لأمكن القول بكل وضوح أنه لو قدر للشهيد رفيق الحريري الآن ان يصرح بما يجول في خاطره لقال بلا تردد ولا وجل : أنا مع لائحة بيروت مدينتي .