بدأت تحتدم الانتخابات البلدية المقرر تنظيمها في بيروت في 8 أيار. للمرة الأولى في تاريخ لبنان، اجتمع عدد من الناشطين والخبراء من المجتمع المدني منذ بضعة أشهر، من أجل وضع برنامج من ثلاثين صفحة، يسعى الى تحقيق عشرة أهداف لتحسين مدينة بيروت. وعوضاً عن ممارسة الضغط على النخبة السياسية بغية إحداث التغيير، قررت المجموعة تحقيق ذلك بنفسها من خلال الترشّح للانتخابات. فشكلت لائحة مؤلفة من 24 مرشحاً، حيث سعت للحفاظ على التوازن الطائفي، ونجحت في عكس النسيج الحقيقي للمجتمع من خلال ضمان المساواة بين الجنسين في المقام الأول، فضلاً عن التوزيع العمري، كما أن المرشحين من خلفيات مهنية متنوعة.

في الواقع، تعكس هذه الخطوة مدى النضج والثقة اللذين يميّزان منظمات المجتمع المدني في لبنان. منذ حوالى عشرين سنة، في العام 1997، نجحت منظمات المجتمع المدني في الضغط على الحكومة لإجراء الانتخابات البلدية التي كان يتم تأجيلها بشكل متكرر لأسباب غير مبرّرة. ومنذ ذلك الوقت، لم تلقى الكثير من محاولات منظمات المجتمع المدني للضغط والمطالبة والاحتجاج ووضع مشاريع القوانين لتغيير المجتمع، آذاناً صاغية من قبل النخبة السياسية. لكن هذه المرة، قررت منظمات المجتمع المدني كسر الجدار الذي يمنعها من اختراق عملية صنع القرار، من خلال التنافس ضد النخبة السياسية ومحاولة إحداث التغيير من الداخل. في الواقع، هذه المبادرة المعروفة اليوم باسم "بيروت مدينتي"، تعطي الناخبين، ولأول مرة، بديلاً حقيقياً ورؤية للمدينة. فقرارها بترشيح 24 مرشحاً، مما يعني عملياً أنها ليست على استعداد للتفاوض مع الأطراف الأخرى، يعكس مدى الثقة والتماسك ضمن هذا الفريق، ومدى الجدية في الحفاظ على التوازن الصحيح في تكوين قائمتها. بعبارة أخرى، هي لا تبدو مهتمة بالمساومة على الأصوات أو عقد تحالفات للفوز في الانتخابات، بل تسعى الى الفوز من أجل تنمية وتطوير المدينة. علاوة على ذلك، "بيروت مدينتي" المؤلفة من أكثر من ألف متطوع، بينهم خبراء ومرشحون وغيرهم، برهنت عن قدرة تنظيمية واسعة في وضع برنامجها الانتخابي، وفي خلق التوافق حول المرشحين الذين تم اختيارهم وفقاً لمعايير واضحة ومحددة، وفي حلّ النزاعات الداخلية التي غالباً ما تؤدي الى تقويض عمل منظمات المجتمع المدني عندما تسعى هذه الأخيرة الى مضافرة جهودها.

في الواقع، نجحت "بيروت مدينتي" من خلال الأمل والرؤية اللذين تتمتع بهما، في استقطاب مخيلة العديد من اللبنانيين المقيمين في الداخل وفي الخارج. يبدو أن العديد من المواطنين يحبّذون برنامجها، والدليل على ذلك هو الانتشار الواسع الذي حققته في وسائل الإعلام الاجتماعية. حتى أن بعض الوزراء السابقين، وبينهم من خدم الطبقة السياسية في مرحلة سابقة، قرروا الانتقال الى الجهة الأخرى لدعم "بيروت مدينتي". هل سيتبلور هذا الدعم بعدد كاف من الأصوات التي تسمح لها بالفوز في الانتخابات؟ لا يزال الجواب سابقاً لأوانه، ولكن المؤكّد هو أن "بيروت مدينتي" قد شكلت النقاش الانتخابي وسجلت العديد من النقاط في وجه خصومها السياسيين. في موازاة ذلك، شكّلت الأحزاب السياسية الحاكمة، وكما هو متوقّع، لائحة مشتركة وزّعت المقاعد البلدية وعددها 24، على 14 فصيلة مختلفة ضمت ستة مرشحين من تيار المستقبل، وممثلين اثنين عن كل من الأحزاب التالية: القوات اللبنانية، الكتائب، الطاشناق، توافق زعماء الأشرفية، وممثل واحد عن مؤسسة مخزومي، والجماعة الاسلامية، وحركة أمل، والعائلات الشيعية، والحزب التقدمي الاشتراكي، والمطران الياس عوده، والهشناغ، والبطريركية السريانية.

هذه اللائحة التي يتغنّى بها السيد جمال عيتاني، الرئيس المعيّن للائحة البيارتة، إذ يعتبرها متماسكة وفيها تمثيل فعلي للطبقة السياسية، تنطوي على الكثير من التناقضات. كما أنّ هذا بالضبط نوع التمثيل الذي حال دون قيام العديد من المؤسسات بعملها، بينها المجلس البلدي الحالي. وعندما سُئل في برنامج "كلام الناس" عن الطريقة التي ستتعامل بها هذه اللائحة، في حال انتخابها، مع المشاحنات الحزبية السياسية داخل المجلس، لم تكن لديه إجابة.

والأسوأ من ذلك هو أن لائحة البيارنة مفلسة فكرياً. ليس لديها برنامج خاص بها وتكتفي، وبشكل سيّئ، بترداد عدد من النقاط الواردة في برنامج "بيروت مدينتي"، مثل استحداث حديقة عامة، وفرز النفايات، والحفاظ على تراث المدينة. وليست لائحة البيارتة الوحيدة التي استوحت من برنامج "بيروت مدينتي"، فاللجنة النيابية المعنية بالأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه، والتي يرأسها أحد نواب تيار المستقبل، وجدت فجأة أن من الملحّ وضع خارطة طريق في غضون شهر واحد لتنفيذ نظام للنقل المشترك. ومع وجود خطة متكاملة لبيروت، وضعتها "بيروت مدينتي"، لا يمكن إلقاء اللوم على السيد وليد جنبلاط حين يدعمها. حتى ابن رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة بدا في البداية وكأنه يؤيّد بيروت مدينتي. إذا كان الأمر كذلك، فهذا اعتراف خطير بفشل فريق والده في إدارة المدينة. إلا إذا كان في دعم وائل لهذه اللائحة شيء من الدهاء، إذ أنه ومن خلال دعم "بيروت مدينتي" بشكل علني على صفحة الفيس بوك الخاصة به، قصد الإشارة إلى أن "بيروت مدينتي" من صنع والده، مقوّضاً بذلك الدعم لها.

وفي محاولته الأخيرة لتعزيز فرص لائحة البيارتة خلال خطابه في طريق الجديدة منذ أيام قليلة، كشف الحريري عن السبب الذي يحتّم فشل المجلس الجديد في حال تمّ انتخابه. فقد عزا ضعف أداء المجلس البلدي الحالي إلى غيابه شخصياً في خلال فترة ولايته. وهذا مثير للاهتمام لأسباب ثلاثة: أولاً، هو يعترف علناً بضعف أداء البلدية التي صنعها بنفسه قبل ست سنوات؛ ثانياً، أن يعزي سوء الأداء البلدي إلى غيابه عن البلاد يبيّن أنه ليس مهتماً ببناء آلية مؤسسية لمساءلة المجلس البلدي، وهي ركيزة أساسية لتحقيق التنمية؛ ثالثاً، هو يدّعي أن الوضع مختلف هذه المرة لأنه يخطط للبقاء في البلاد، وبالتالي يلمّح إلى أنه يخطط للتدخل في عمل البلدية. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يعلن بشكل واضح نيته تقويض البلدية، وتنصيب نفسه على أنه الضامن لتلبية احتياجات الناس. إنه يبدو بعيداً كل البعد عن الواقع.

ما لم يفهمه الحريري هو أن تدخلاته وتدخّلات الأحزاب السياسية الأخرى هي التي تقوّض عمل البلديات. ولهذا السبب بالذات، على الناس ألّا يصوّتوا للائحة البيارتة، إذ إن هذا النوع من التدخل من شأنه أن يقوّض آخر مؤسسة قادرة على تحقيق التنمية. ففقط من خلال تمكين الآليات الداخلية والخارجية للمساءلة ستكون المدينة أفضل حال.

سامي عطاالله, المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات