(قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)   وتعود ذكراك ولا زال فكرك ينبض في عقولنا ويضئ طريقنا في هذا الظلام الحالك ،فرحيلك سيدي كان رحيل الجسد ، لأن روحك وعقلك تسكن بين الحنايا والضلوع ،لأن كلماتك المملؤة بأمواج الحب والحنان تعبر بحار القلب .. إن الحديث عن قامة بحجم سماحة السيد محمد حسين فضل الله رضوان الله عليه، يثير في النفس الآهات والشجون ، لما له من إسهامات وإنجازات وتأثير بشكل فعال في رسم الاستراتيجيات السياسية للحركات الإسلامية ولما له من تأثير في نفوس من استمعوا له وعرفوه .

كيف لا وسماحته على مدى الأعوام الأربعين الماضية شغل الدنيا بفكره التجديدي حيث كان علامة فارقة في الفكر والثقافة والفقه وتحول منهلا للعلم والحكمة والإعتدال والوحدة والأهم أنه العالم العامل المخلص الذي نراه صورة ونسمعه صوتا ، في وقت كان البعض إما صورة بلا صوت أو صوتا بلا صورة ،فهو لم يأت بالإسقاط السياسي أو الحشد الإعلامي أو الوراثة الحزبية ..   طرح المرجعية والحملات الظالمة :   في عام 1994م طرح السيد فضل الله مرجعيته بعد غياب الصف الأول من مراجع التقليد وبعد أن أخذ المؤمنون يستفتون سماحته في المسائل الفقهية وإلحاحهم عليه لطرح مرجعيته ليستفيدوا من آرائه الفقهية الميسرة .

إن عملية الإنتقال من المرشد والعلامة إلى المرجع والفقيه وطرح المرجعية أدى إلى جفاء بينه وبين البعض ونتيجة لذلك انطلقت مسابقة محمومة لاستقطاب الجمهور الشيعي العام واستدرار تأييده لازلنا إلى اليوم نعيشها بقوة بحيث أن سماحته لا يذكر بأي كلمة في أي محفل وكأنه لم يكن هناك شخص اسمه"محمد حسين فضل الله" ! لكن سماحته حينها لم يكن يكترث ،ومضى بعيدا عن ذلك الصراع ،وقدم سماحته الصورة الإسلامية المثالية في الاختلاف بعيدا عن المهاترات والتشنجات .. إن هذه الحملة بشكل أو بآخر ساهمت بالتجرؤ على العلماء فأصبح الصغير والكبير يطال سماحته ،بعد أن شرعت الأبواب بالإهانة والسباب والتشهير ، والهدف الأساس تحجيم مرجعية السيد فضل الله وإضعافها وعدم انتشارها والتقليل من تأثيرها .

إلا أن سماحته استمر رغم كل المؤامرات التي حيكت ضده من تزوير للحقائق والعقائد واستهدفت حتى طهارته ومأكله ، ونعته بالضال المضل والمارق ..  بقى صامدا مثل الجبل ،لم تهزه عواصف تخلفهم ولم يكترث لها ولم يرد على أبواقها وكل رموزها مرددا الحكمة القائلة : "إن الصمت إجابة بارعة لا يتقنها الكثيرون" مستهديا بقوله تعالى : (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ).

إن محاولة إسقاطه من خلال اتهامات باطلة ترتبط بالسمة الحركية المنفتحة التي تميزت بها مرجعيته والتي خرجت عن المألوف والموروث عند الناس من خلال اجتهاداته التجديدية المعاصرة حيث شكلت عقبة أمام امتداد للمرجعيات الأخرى من خلال تمايزه عن المرجعيات التقليدية ، بانفتاحه على الناس ومعايشتهم وحمل همومهم وحل مشاكلهم ،ولقائه بهم في كل المناسبات ،وتصديه للكثير من الواجبات اليومية ،وعيشه مع الناس ، وانفتاحه على كل المسلمين وغيرهم من خلال موقعه في لبنان ،مرجعية تتحرك في كل الساحات وتتصدى لكل المشكلات وتواكب العصر .

والشئ المفاجئ أن سماحته استطاع أن ينتصر على كل تلك الحملات ،وهي حقيقة أثبتتها نتائج نفوذه وفي أعداد مقلديه ومحبيه ومريديه في العالم إلى اليوم ، وكل منا يرى كثيرا قوة ذلك النفوذ وحضور سماحته المميز ومكانته الرفيعة في المشهد الفكري والديني والإنساني إقليميا وعالميا .

لم يعد سماحته مرجع تقليد أو رجل دين أو ملهما فقط وإنما بات ينظر إليه كمشروع ديني تنموي فكري إصلاحي رائد للأمة . عندما يتحول سماحته إلى مشروع فإن ذهابه أو غيابه يبقى رمزيا لأن ما تم إنجازه أصبح مستداما في عطائه ومؤسسا لمشروعات أخرى باتت تتقولب على أفكاره ، وسيدرك الجيل القادم أهمية سماحته يوم فتح كوة في جدار الصمت الفقهي والفكري .

مثل هذه الشخصية بإيمانها وفكرها كنا نقرأ عنها في الكتب وجاء سماحته ليجسد كل القيم الإنسانية الإسلامية ويحقق النموذج الإيماني على أرض الواقع . إن السيد محمد حسين فضل الله(رضوان الله عليه) شخصية استثنائية في حياتنا المعاصرة وهو مثال أعلى للحرية والموضوعية والربانية والمحبة والجهاد ، سيمضي وقت طويل لنعرف له مثيلا ..!