وصل العراق إلى انغلاق سياسي محفوف بالمخاطر، إذ وجد السياسيون أنفسهم مجبرين حتما على مواجهة مصير مجهول، إذا ما تمكن رجل الدين المتمرد مقتدى الصدر من صياغة معادلة سياسية جديدة في بغداد، أو إذا فشل في فرض هيمنته عبر الدعوة إلى محاربة الفساد وإسقاط المحاصصة الطائفية.

ورغم توافق مطالب المتظاهرين، الذين اقتحموا المنطقة الخضراء شديدة التحصين السبت، مع محاولات مضنية لرئيس الوزراء حيدر العبادي من أجل بسط نفوذه المتآكل، إلا أن الكثيرين مازالوا ينظرون إليه باعتباره الطرف الأضعف.

واقتحم المئات من أتباع الصدر مبنى البرلمان داخل المنطقة الخضراء يوم السبت ونصبوا خياما بجوار المبنى بعد أن ندد الصدر بإخفاق السياسيين في إصلاح نظام المحاصصة السياسية الذي تلقى عليه مسؤولية تفشي الفساد.

واحتشد عشرات الآلاف من أتباع الصدر في ساحة الاحتفالات الكبرى المجاورة لمبنى البرلمان رافعين الأعلام العراقية، ورددوا هتافات معادية لإيران، والتقطوا صورا في المكان الذي لم يستطيعوا الوصول إليه قبل ذلك.

وأدت هذه الخطوة، التي جرت بسلمية إلى حد كبير وتبعها اعتصام المتظاهرين وسط المنطقة الخضراء، إلى تبدد آمال تشكيل الحكومة التي أعدها العبادي وكان يعول عليها في استعادة جانب كبير من الاستقرار الذي يحتاجه للتركيز على محاربة تنظيم داعش.

لكن سرعان ما انتشر الذعر مؤقتا إثر مقتل 33 شخصا وإصابة العشرات بجروح في انفجار متزامن لسيارتين مفخختين وسط مدينة السماوة (370 كلم جنوب بغداد). وأعلن تنظيم داعش لاحقا مسؤوليته عن الهجوم.

وعلى الفور دعا الرئيس العراقي فؤاد معصوم، الذي يخشى من انهيار النظام السياسي القائم منذ عام 2003، الرئاسات الثلاث إلى عقد اجتماع لـ”تدارس تداعيات الأحداث والإسراع بالإصلاحات”.

 

 

 

    ولم يفض الاجتماع إلى نتائج قد تحدث انفراجة في الأزمة. وأدان بيان لهيئة الرئاسة العراقية وزع في ختام الاجتماع “اقتحام مجلس النواب العراقي والاعتداء على عدد من أعضاء المجلس”، قائلا إن “ما حصل هو تجاوز خطير لهيبة الدولة”. وطالب “بمقاضاة المعتدين أمام العدالة لأن ذلك يشكل خرقا فاضحا للإطار الدستوري”.

ويقول محلل سياسي عراقي، طلب عدم ذكر اسمه، لـ”العرب” إنه “ليس غريبا أن يكون رئيس الجمهورية في العراق جاهلا بحقيقة الخلاف بين الكتل السياسية المتناحرة، داخل مجلس النواب وخارجه. بل إن بعض تلك الكتل قد ضيع هدفه الأساسي وسط التناحر المستمر بكل ما ينطوي عليه من أفعال وأفكار عبثية”.

وأضاف “ترهيب النواب هو هدف الصدر من احتلال أتباعه لمبنى مجلس النواب. لكن هدفه قبل وقت قصير كان يتلخص في دفع رئيس الوزراء العبادي إلى الاستقالة. نجح الصدر في إسقاط الحكومة من غير إقالة العبادي. خروج الصدر منتصرا من خلال التفافه على نظام المحاصصة بحيث يحصل على الجزء الأكبر مما يسمى بحكومة التكنوقراط لم يعجب الآخرين الذين رأوا في هذه الحكومة، الذي يريد حزب الدعوة فرضها، خسارة كبيرة لحصصهم من الغنيمة”.

ويجد العراقيون أنفسهم اليوم وسط صراع علني حول المصالح المغلفة بغايات نبيلة، على رأسها محاربة الفساد.

لكن فشل الصدر، الذي يتزعم حركة التمرد على الطبقة السياسية، في التخلص من الكثير من التناقضات في مواقفه، وعدم تمكنه من طرح استراتيجية واضحة طويلة الأمد، أبقى على توجس قطاعات واسعة من العراقيين تجاهه.

وتشكل حكومة التكنوقراط، التي تقبع في بؤرة الصراع السياسي، الورقة التي بدأ العبادي في التلويح بها، لكن سرعان ما تمكنت قوى سياسية عدة من احتوائها.

ويقول باتريك سكينر الضابط السابق في سي أي إيه، الذي يعمل حاليا مستشارا لدى مجموعة “صوفان” للتحليل الاستراتيجي إنه “حتى الأكثر طائفية بين العراقيين، رأى فشل القادة ونظامهم” السياسي.

وأضاف أن “المسألة ليست: لماذا الآن؟” في إشارة إلى التظاهرات، وتابع “لكن لماذا تأخرت؟ فالنظام لا يعمل”.

وصارت الفوضى بديلا عن النظام السياسي العاجز عن العمل. وأثار ذلك حفيظة الولايات المتحدة التي تضغط للإبقاء على القتال ضد داعش بين أولويات الطبقة السياسية المتناحرة.

وتعول واشنطن على طهران في احتواء الخلافات بين قوى أساسية تابعة لها. لكن على ما يبدو مازال المسؤولون الإيرانيون مأخوذين من وقع المفاجأة التي خلطت الكثير من الأوراق في بغداد.

وقال المحلل العراقي “سيكون علينا أن نتساءل: بين مَن ومَن يجري الصراع؟ وهو سؤال يؤجل النظر في سؤال أهم هو: ما الهدف من ذلك الصراع؟، وذلك لأن الأهداف صارت غامضة أكثر من ذي قبل. كما أن انتقال هذا الطرف أو ذاك من موقع الصديق إلى موقع العدو صار يتم بسرعة وخفة”.

وأكد لـ”العرب” أنه “ليس هناك ما يدعو إلى التفاؤل بنهاية المأزق. فما يحدث اليوم هو تتويج لأزمة عمرها من عمر النظام الحالي الذي أقامته سلطة الاحتلال الأميركي على أساس هش، ولم يبذل السياسيون العراقيون جهدا حقيقيا لتمتينه وتقويته، لا لشيء إلا لأنهم غير واثقين من إمكانية استمراره”.

صحيفة العرب