السياسة ليست فن الممكن فحسب. هي أحد أرقى أساليب إدارة الاجتماع الانساني، وأفضل وسيلة لتفادي اللجوء الى القوة. هي بديل الحرب ونقيضها التام. وهي بالتالي ليست عيباً او حراماً. بل يمكن ان تكون أهم ما تمثله الانتخابات البلدية التي دخل لبنان في معاركها ببرامج وشعارات تزعم انها غير مسيسة مع انها في جوهرها سياسية. 

إنكار السياسة وإزدراء التسييس من قبل جميع المعنيين بهذه الانتخابات، التي لا يزال اجراؤها يعتبر تحدياً حقيقياً لمسار الانحطاط اللبناني، ينمان عن جهل، إن لم يكن عن خبث ونفاق متبادل بين القوى السياسية التي تخوض المعركة لقياس الاحجام والاوزان الخاصة بكل منها، وبين الجمهور الذي يريد بتواضع شديد ان يمارس حقه ويختبر دوره في التأثير على تلك القوى.

الجهل ناجم عن الاعتقاد بان المعركة الانتخابية في لبنان هي بالتعريف صراع بين خيارات وإرادات وطنية كبرى ليس إلا. وهذا صحيح الى حد بعيد، لكن مثل هذا الصراع كان ولا يزال يسير على حافة الحرب الاهلية التي تشكل طبيعة ثانية للكيان اللبناني، وهو الان مقفل، او بالاحرى محظور، في ظل الزلازل المدمرة التي تضرب المحيط العربي كله، والجوار السوري بشكل خاص.

التواطوء الضمني بين القوى السياسية وبين الجمهور على إفراغ الانتخابات البلدية من أي محتوى سياسي، لا يعني انه سيكون بالامكان تفادي قراءة نتائج عمليات الاقتراع بالسياسة وحدها ، وبصفتها معياراً دقيقاً الى حد ما لتبدل مواقف الناخبين ولتغير مراتب الاحزاب والتيارات والشخصيات السياسية.. كما يحصل في جميع بلدان العالم التي تتعاطى مع الانتخابات المحلية (الاقاليم او البلديات) بوصفها مؤشراً أولياً مهماً على شعبية السلطة والمعارضة .

بديهي القول ان معظم القوى السياسية اللبنانية إن لم يكن كلها ذاهبة الى المعركة البلدية على مضض، بعدما سعت، ولا تزال، لتجنب الخضوع لمثل هذا الاختبار الشعبي الحرج. وهي الان تود حصرها في أضيق نطاق ممكن، في النطاق العائلي وحساسياته الدائمة، التي تحد في العادة من وظيفة السياسة او تعطلها.. وتوفر للسياسيين فرصة القيام  بدور الوساطة بين العائلات، والزعم انهم أعلى رتبة وثقافة من ذلك المكون الاجتماعي الاول، مع انهم ابناء سلالات، لا أبناء تجارب سياسية.

  لا يعني ذلك بالضرورة ان جمهور الناخبين أرقى من عصبة السياسيين. لكن مأزق البلد، الذي تسببت به الطبقة السياسية، أنتج نماذج مدنية متقدمة فعلا في وعيها السياسي وفي توقها الى تحمل المسؤولية. وهي تتحدى الطوائف وزعاماتها السياسية التقليدية، وتتقدم نحو خوض المعركة البلدية بتصميم لم يسبق له مثيل. 

لائحة “ بيروت مدينتي” هي من أبرز هذه النماذج التي تخوض المعركة ضد لائحة “البيارتة” الحريرية، وتستكمل مساراً مدنياً (سياسياً)، أطلقه الحراك المدني العام الماضي. ولعلها تمثل الامتحان الاهم  لذاك الحراك العفوي الذي سقط فقط نتيجة قلة الخبرة وسوء التنظيم   وتوسع الاختراق السياسي. لكن رصيده الاول ما زال محفوظاً في مكان خاص في الذاكرة اللبنانية. 

أهمية اللائحة أنها تنطلق من العاصمة بالذات لتواجه إجماعاً سياسياً نادراً، وتشكل إشارة مشجعة لمبادرات مدنية تتحرك في بقية المحافظات والمدن والبلدات التي ضاقت ذرعاً هي الاخرى بفساد الطبقة السياسية ومسؤليتها عن دفع البلد نحو الانهيار.. وتتحين الفرصة البلدية للتعبير عن رأيها وعن مشروعها السياسي المغلف ببرامج التنمية .

يقال ان من الخطأ بل ومن الظلم ربط تلك التحديات المدنية للطبقة السياسية بالحراك المدني المحبَط. لكن التأسيس على تلك التجربة المتواضعة التي شهدها لبنان الصيف الماضي، ومراكمة بعض إنجازاتها، هو الخيار السياسي الوحيد المتاح الان للبلد المأزوم والشعب التائه.