نشرت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تقريرا مطولا عن تنظيم الدولة رصدت فيه صعود نجم التنظيم وقياداته منذ تأسيسه وحتى إعلان "الخلافة" وتقليدها لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي.

وناقش التقرير جذور التنظيم الفكرية واختلافه مع التنظيم الأم "القاعدة" وخروجه عن مسارها بل وقتاله إياها في الساحة السورية ممثلة بـ"جبهة النصرة".

ويورد التقرير التأصيل الشرعي الذي يعتمد عليه التنظيم في قتاله "المرتدين" وهيكلية التنظيم التي ساعدت في بقائه حتى اليوم رغم الهجمة الكبيرة عليه إعلاميا وعسكريا.

كما يضيف التقرير نبذة عن حياة زعيم التنظيم "أبو بكر البغدادي" ودوره في تشكيل "الدولة" في العراق وانتقالها إلى سوريا.

وفيما يلي نص التقرير كاملا: 

لم يدرك أبو أنيس أن هناك شيئا غير معتاد يحدث من حوله إلا حين سمع أصوات انفجارات قادمة من المدينة القديمة على الضفة الغربية من نهر دجلة الذي يجري عبر الموصل.

"هاتفت بعض الأصدقاء هناك، وقالوا إن جماعات مسلحة سيطرت على المدينة، بعضهم أجانب وبعضهم عراقيون. وقال لهم المسلحون، جئنا لنتخلص من الجيش العراقي، ونساعدكم"، هكذا استرجع فني الكمبيوتر أبو أنيس ذكرى ذلك اليوم.

وفي اليوم التالي، عبر المسلحون النهر واستولوا على الجزء المتبقي من المدينة. غير أن عناصر الجيش والشرطة العراقيين، الذين كانوا يفوقون المهاجمين عددا بفارق شاسع، تفرّقوا وفرّوا، وفي مقدمتهم الضباط، بينما خلع الكثير من الجنود ملابسهم العسكرية لينضموا إلى جموع المدنيين المذعورين.

كان هذا هو يوم 10 من آذار/ مارس 2014، في أعقاب سقوط ثاني أكبر مدينة عراقية، ويبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، في قبضة مليشيات من الجماعة التي كانت تطلق على نفسها في ذلك الحين اسم "تنظيم الدولة في العراق والشام" (داعش).

وقبل أربعة أيام من ذلك اليوم، تدفقت الرايات السوداء في اتجاه المدينة، وعبر بضع مئات من عناصر التنظيم الحد الصحراوي في موكب انطلق من قواعد التنظيم شرقي سوريا، ولم يلق سوى مقاومة محدودة في طريقه للفوز بجائزته الكبرى.

وكانت الغنائم الوفيرة في انتظارهم. فقد قام الجيش العراقي، الذي أعاد الأمريكيون بنائه وتدريبه وتجهيزه بالعتاد بعد غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة عام 2003، بالتخلي عن عدد كبير من المدرعات والأسلحة المتقدمة حيث استحوذت عليها المليشيات على الفور. كما قيل أنهم نهبوا نحو 500 مليون دولار من فرع البنك المركزي في الموصل.

تنظيم الدولة: يستميت ليبقى ثريا

قال أبو أنيس: "في البداية، تصرفوا بشكل جيد. فقد أزالوا جميع المتاريس التي وضعها الجيش بين الأحياء. وقد راق ذلك للناس. وكانوا ودودين ومتعاونين عند نقاط التفتيش، فكانوا يقولون: إذا احتجتم أي شيء، نحن هنا من أجلكم".

لكن بعد أسابيع قليلة، لم تكد تمر أيام حتى حدثت أمور مروّعة بالفعل فيما بدا كأنه كان شهر عسل وانتهى.

فمع انهيار الجيش في المنطقة الشمالية بأكملها، تحركت الميليشيات بسرعة عبر وادي دجلة، وتساقطت البلدات والقرى واحدة تلو الأخرى، كما تتساقط القناني. ولم يكد يمر يوم حتى استولى مسلحو التنظيم على بلدة بيجي بما في ذلك المعمل الضخم لتكرير النفط بها، ثم سرعان ما استولوا أيضا على بلدة تكريت القديمة، مسقط رأس صدام حسين، ومعقل السنة.

وعلى أطراف تكريت، توجد قاعدة عسكرية كبيرة، سيطر عليها الأمريكيون منذ 2003، وتغير اسمها إلى معسكر سبايكر، نسبة إلى أول قتيل أمريكي في حرب الخليج الثانية "عاصفة الصحراء"، وهو طيار يُدعى سكوت سبايكر، أسقطت طائرته عام 1991 على منطقة الأنبار في الغرب.

ثم حاصرت ميليشيات تنظيم الدولة ذلك المعسكر، وهو يعجّ بالمجندين العراقيين، واستسلم المعسكر بأكمله. وقد صُنف آلاف الأسرى بحسب انتماءاتهم، فالشيعة منهم أخِذوا وقيدوا ونُقلوا في شاحنات بعيدا ليطلقوا النار عليهم في خنادق معدة مسبقا. ويُعتقد أن قرابة 1.700 شخص قتلوا في هذه المذبحة بدم بارد. ولا تزال عمليات البحث عن المقابر الجماعية مستمرة.

وبدلا من أن يخفي التنظيم جرائمه الوحشية، تلذّذ بعرض مقاطع فيديو وصور على الإنترنت تظهر عناصره المتشحون بالسواد وهم يقتادون السجناء الشيعة ويطلقون عليهم الرصاص.

أما من حيث الزهو والابتهاج بالقسوة والأعمال الوحشية، فإن ما حدث بعد ذلك كان أكثر بشاعة.

فبعد توقف دام شهرين فقط، أطل داعش الذي بات يعرف بتنظيم "الدولة"، برأسه مرة أخرى ليستحوذ على مساحات كبيرة شمالي العراق التي يقطنها الأكراد.

وكانت مدينة سنجار ذات الأغلبية الإيزيدية، هذه الأقلية الدينية التي يعدُّها التنظيم مجموعة من الزنادقة، من بين تلك المناطق.

فقتل المئات من الإيزيديين الذين لم يتمكنوا من الفرار. أما النساء والأطفال، ففصلوا عن بعضهم البعض ثم أخذوا سبايا حرب، إلى حين بيعهم أو مقايضتهم كسلع منقولة، واستخدمت الفتيات والنساء جواري للمتعة الجنسية. ولا يزال الآلاف مفقودين، يواجهون هذا المصير.

ووصل تعطش التنظيم، الذي يتعمد أن يكون صادما، لسفك الدماء أوجه بنهاية الشهر نفسه، في آب/ أغسطس 2014.

فقد بث التنظيم مقطع فيديو يظهر فيه قاطع الرؤوس سيء الصيت محمد اموازي، ذو اللكنة اللندنية، والذي لُقب على سبيل التندر باسم "الجهادي جون"، وهو يقتل الصحفي الأمريكي جيمس فولي بطريقة تقشعر لها الأبدان.

وفي الأسابيع اللاحقة، ظهر المزيد من الصحفيين وموظفي الإغاثة الأمريكيين والبريطانيين، منهم ستيفن سوتلوف، وديفيد هينز وألان هينينج وبيتر كاسيغ (الذي كان قد أشهر إسلامه وغير اسمه إلى عبد الرحمن) وهم يُذبحون في مقاطع فيديو مشابهة متقنة الإنتاج والإخراج، لم تخل من البيانات الترويجية للتنظيم والتحذيرات المروّعة.

وفي غضون شهور، شقّ تنظيم الدولة، الذي لم يكن سوى جماعة مغمورة، طريقه نحو العالمية، متبنيا تفجيرات هنا وهناك، وبين عشية وضحاها، أصبح محط أنظار العالم.

وعلى مسافة سبعة آلاف ونصف ميل، ما يعادل 12 ألف كيلومتر من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، لخّص توني أبوت، رئيس الوزراء الأسترالي آنذاك، هذا الرعب الجديد الذي يندى له الجبين، متحدثا عن التنظيم: "همجية القرون الوسطى، اقترفت الجرائم وازدادت توسعا مستعينة بأحدث الوسائل التكنولوجية".

فقد برز تنظيم الدولة، لافتا نظر العالم إليه. ولكن هؤلاء الرجال المتشحين بالسواد لم يأتوا دون سابق إنذار. فقد كانوا يُعدّون لذلك منذ وقت طويل.

لاهوت القتل

تمتد الجذور الدينية أو الإيديولوجية لتنظيم الدولة وما يشابهها من جماعات عبر التاريخ منذ بداية ظهور الإسلام تقريبا في القرن السابع الميلادي.

فقد نزل الإسلام، كالمسيحية من قبله بستة قرون، واليهودية قبل ثمانية قرون، في منطقة الشرق الأوسط بطبيعتها القبليّة القاسية.

وكتب ويليام بولك المؤرخ والناشر: "انعكست المجتمعات القبلية البدائية اليهودية والعربية في النصوص الأصلية، أي العهد القديم والقرآن، فلا اليهودية المبكرة ولا الإسلام يسمحان بالردة. فكل منهما يعتبر ثيوقراطية استبدادية".

وتابع "فقد كانت القوانين، المنصوص عليها في العهد القديم، تهدف إلى حفظ التماسك القبلي والسلطة وتعضيدهما، أما نصوص القرآن، فكانت تهدف إلى اجتثاث ما تبقى من الوثنية وما يصاحبها من ممارسات".

ومع مرور الأعوام، انتشر الإسلام في مناطق شاسعة، مواجها ومتوائما مع مجتمعات وديانات وثقافات مغايرة. فلم يجد مفرا من التغير، من حيث الممارسات، بطرق شتى، ليصبح أكثر برغماتية وتسامحا تارة، وفي أحيان كثيرة كان يوضع في المنزلة الثانية بعد متطلبات السلطة والسياسة والحكام المؤقتين تارة أخرى.

أما بالنسبة للمسلم التقليدي المتشدد، ترقى تلك الممارسات إلى الانحراف عن الطريق المستقيم، ومنذ سنين طويلة، وقع تضارب في الأفكار، ولكن أولئك الذين نادوا بالعودة بصرامة إلى "نقاء" الأيام الأولى للإسلام، لطالما دفعوا الثمن.

فقد سُجن العالم البارز أحمد بن حنبل (780 إلى 855)، الذي أسس أحد المذاهب السنية الأربعة في الفقه الإسلامي، وضُرب بالسوط ذات مرة حتى سقط مغشيا عليه في أحد الخلافات مع الخليفة العباسي في بغداد. وبعد قرابة خمسة قرون، قضى أحد كبار الأئمة من نفس المذهب الأصولي الصارم، الإمام ابن تيمية، حتفه في السجن في دمشق.

وهذان الشيخان يعدان الأبوين الروحيين لمن جاء بعدهم من مفكرين وما ظهرت من حركات، عرفت لاحقا باسم "المذهب السلفي"، الذي يدعو إلى العودة إلى منهاج السلف الصالح.

وقد أثرا في شخص آخر جاء من بعدهم، كان لتفكيره وكتاباته وقع هائل ومستمر على المنطقة وعلى الحركة السلفية، ومن أحد أشكالها، الوهابية، التي سُميت على اسم هذا الرجل.

وُلد محمد بن عبد الوهاب عام 1703 في قرية صغيرة في منطقة نجد، في قلب شبه الجزيرة العربية.

اتخذ عبد الوهاب، وهو عالم إسلامي ورّع، الاتجاه الأكثر تزمتا وصرامة من ما كان يرى أنها العقيدة الأصلية، وطورها، وسعى إلى نشرها بإبرام مواثيق مع أصحاب السلطة السياسية والعسكرية.

وفي أولى محاولاته في هذا الاتجاه، كان أول إجراء اتخذه هدم ضريح زيد بن الخطاب، أحد صحابة النبي محمد، متذرعا بأن العقيدة السلفية التي تدعو إلى الزهد والتقشف، تقضي بأن تعظيم القباب شرك بالله، لما فيه من تقديس لشيء أو شخص ما غير الله.

ولكن في 1744، دخل عبد الوهاب في تحالف حاسم مع الحاكم المحلي محمد بن سعود في صورة ميثاق جعل الدعوة الوهابية هي البعد الديني أو الفكري للتوسع السياسي والعسكري السعودي، وكان ذلك لمصلحة الطرفين.

وقد انتشر هذا التحالف الثنائي، الذي طرأت عليه تعديلات عديدة، ليشمل جلّ شبه الجزيرة العربية، ومازال مستمرا إلى يومنا هذا، يحكم بمقتضاه آل سعود بالتوافق مع المؤسسة الدينية الوهابية المتشددة، وإن كان هذا التوافق قد مر ببعض الفترات الصعبة.

وقد وفر كل من تأصّل السلفية الوهابية في المملكة العربية السعودية، جنبا إلى جنب مع المليارات من البترودولارات (عوائد النفط المدفوعة بالدولار)، التي وضعت تحت تصرفها، بيئة خصبة لنمو العنف الجهادي في المنطقة في العصر الحديث. والجهاد يعني النضال في سبيل الله، وهو ما قد يشمل صورا كثيرة من جهاد النفس، ولكنه يُفسر في الغالب كدعوة لشن حرب مقدسة.

ولكنّ ثمة رجلا ينسب إليه دوما الفضل تارة لاستحضار الفكر السلفي إلى القرن العشرين وينحى عليه باللائمة تارة أخرى، وهو المفكر المصري سيد قطب. فقد عمل قطب على توفير جسر بين فكر عبد الوهاب وأسلافه وبين جيل جديد من الجهاديين، ممهدا السبيل لظهور تنظيم القاعدة وكل ما تلاها فيما بعد.

وُلد سيد قطب في قرية صغيرة في صعيد مصر عام 1906، لكنه كان رافضا للطريقة التي يُدرّس بها الإسلام ويمارس آنذاك. ولم تغيّر فترة دراسته في الولايات المتحدة التي استمرت عامين في أواخر أربعينيات القرن العشرين، من نظرته للغرب قطّ، بل على العكس زادته امتعاضا من المجتمع الذي أصدر عليه حكما بأنه مادي وكافر ومنغمس في الملذات، وهو ما انعكس على نظرته الإسلامية الأصولية التي بدأت في اتخاذ شكل أكثر صرامة.

وحين عاد إلى مصر، اكتملت لديه وجهة نظر مفادها أن الغرب يعمل على بسط نفوذه في المنطقة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بعد انهيار الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى بمشاركة حكام في المنطقة يزعمون أنهم مسلمون، ولكنهم في الحقيقة قد انحرفوا عن الطريق الصحيح انحرافا بينا ولم يعد من الممكن اعتبارهم في عداد المسلمين.

ومن وجهة نظر قطب، فالجهاد ضد الغرب وعملائه في المنطقة هو السبيل الوحيد الذي سيستعيد العالم الإسلامي نفسه من خلاله. وكان ذلك في جوهره، نوعا من القبول لفكرة التكفير، التي لا تسوغ قتل مسلم فحسب، بل تجعل قتله فرضا يثاب فاعله.

وعلى الرغم من أن قطب كان منظّرا ومفكرا أكثر من كونه جهاديا نشطا، إلا أن السلطات المصرية حاكمت سيد قطب بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، وقد أُعدِم عام 1966 بعد إدانته بتهم التآمر مع جماعة الإخوان المسلمين لاغتيال الرئيس جمال عبد الناصر.

لكن قطب كان سابقا لعصره، وقد خُلدت أفكاره في 24 كتابا قرأها عشرات الملايين، ونقلها إلى غيره من خلال تواصله الشخصي مع معارفه من الناس، كان من بينهم أيمن الظواهري، مصري آخر، وهو القائد الحالي لتنظيم القاعدة.

وقال صديق مقرّب من مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن: "كان قطب هو الأكثر تأثيرا في جيلنا". كما وُصف بأنه: "مصدر الفكر الجهادي"، و"فيلسوف الثورة الإسلامية".

وبعد مُضي 35 عاما على إعدامه، خلُص تقرير اللجنة الرسمية المكلفة بالتحقيق في هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001 التي تبنتها القاعدة، إلى أن "بن لادن يشارك سيد قطب في رأيه المتشدّد، الذي يجيز له ولأتباعه تبرير القتل الجماعي على إنه دفاع شرعي عن عقيدة تواجه حربا".

وما فتئ تأثيره باقيا حتى اليوم. وقال هشام الهاشمي الخبير العراقي في الحركات الإسلامية، موجزا جذور تنظيم الدولة وغيره من التنظيمات التي سبقته: "إنهم يستندون إلى أمرين: عقيدة تكفيرية يستمدونها من كتابات محمد بن عبد الوهاب، ومنهجيا، الطريق الذي رسمه سيد قطب".

إذن، فقه الجهاد المسلح اتخذ طريقه، لكن لم ينقصه سوى شيئين ليخرج إلى النور، ألا وهما ساحة القتال وخبراء استراتيجيون لتحديد شكل المعركة.

ووفرت أفغانستان المكان المناسب لكليهما.

بزوغ نجم القاعدة

كان الغزو السوفيتي عام 1979 وما تلاه من احتلال دام 10 أعوام، عاملا جاذبا استقطب المنضمين إلى صفوف المجاهدين من شتى أنحاء العالم العربي. إذ توافد نحو 35 ألف منهم على أفغانستان في هذه الفترة، من أجل الجهاد ومساندة الميليشيات المسلحة المسلمة في تحويل ساحة المعركة أمام الروس إلى فيتنام جديدة.

لا يوجد دليل قوي على أن من عرفوا فيما بعد بـ"العرب الأفغان" لعبوا دورا قتاليا محوريا في إخراج السوفييت من أفغانستان. ولكنهم ساهموا مساهمة كبيرة في إقامة شبكات داعمة في باكستان، للاستفادة من الأموال القادمة من المملكة العربية السعودية وغيرها من المانحين لتمويل المدارس ومعسكرات تدريب المسلحين. وكانت تلك فرصة سانحة لتكوين شبكات وإقامة علاقات متينة فضلا عن خوض تجربة الجهاد وجها لوجه.

والعجيب أن المجاهدين في أفغانستان وجدوا أنفسهم يحاربون جنبا إلى جنب مع الأمريكيين. فقد وجهت المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي أيه) من خلال برنامج "عملية سايكلون" مئات الملايين من الدولارات عبر باكستان إلى زعماء المجاهدين الأفغان مثل قلب الدين حكمتيار، الذي كانت تربطه علاقة وثيقة بالمجاهدين العرب.

وفي الحقيقة، جميع الوجوه البارزة في عالم المجاهدين الجدد خاضوا تجربة القتال على أرض الواقع للمرة الأولى في أفغانستان. وقد ساهموا في توجيه مسار الأحداث هناك في أعقاب انسحاب الجيش السوفيتي عام 1989، وهي الفترة التي شهدت بزوغ تنظيم القاعدة كأداة للجهاد العالمي واسع النطاق، ووفرت أفغانستان قاعدة له.

ولما تسلمت حركة طالبان زمام الأمور في 1996، كانت في شراكة بالفعل مع أسامة بن لادن ورجاله، ومن أفغانستان شنّت القاعدة هجماتها في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001.

وقد وفرّت هذه التجربة الأفغانية، التي كانت بمثابة مرحلة التكوين، زعماء جهاديين سلفيين اشتدّ ساعدهم في القتال، وخبراء استراتيجيين لعبوا فيما بعد دورا ناجعا في بزوغ تنظيم الدولة الآن.

وكان أبرز هؤلاء الأردني المتشدد أبو مصعب الزرقاوي، الذي انتهى به المطاف ليصبح الزعيم الروحي المباشر لتنظيم الدولة أكثر من أي شخص آخر.

أبو مصعب الزرقاوي

فقد قضى الزرقاوي، الذي لم يكمل دراسته الثانوية، عقوبة السجن للمرة الأولى عندما حُكِم عليه في جرائم ذات صلة بالجنس والمخدرات، ثم اتجه إلى التدّين بعدما أُرسِل لحضور دروس في مسجد في العاصمة الأردنية عمّان. وقد تزامن وصوله إلى باكستان للانضمام إلى صفوف المجاهدين في أفغانستان مع انسحاب الجيش السوفيتي سنة 1989، ولكنه ظل باقيا هناك في صفوف المجاهدين.

وبعدما عاد إلى الأردن، صدر عليه حكما بالسجن 15 عاما بتهم المشاركة في أعمال إرهابية، قبل أن يطلق سراحه بموجب عفو عام. وأخيرا التقى الزرقاوي بن لادن ونائبه أيمن الظواهري عام 1999.

ولكنّ كل الروايات تشير إلى أن زعيمي القاعدة، لم يرق لهما الزرقاوي على الإطلاق. فقد بدا لهما فظّا ومتصلب الرأي، كما لم تعجبهم الوشوم المرسومة على جسده من حياته السابقة والتي لم يتمكن من إزالتها.

بيد أنه كان قادرا على التأثير على الآخرين وكان نشطا، وعلى الرغم من أنه لم ينضم إلى تنظيم القاعدة، إلا أنهم أوكلوا إليه في نهاية الأمر مسؤولية معسكر تدريب في هيرات، غربي أفغانستان.

وهناك عمل جنبا إلى جنب مع مُنظِّر آخر أضحت كتاباته المتشددّة بمثابة مرجع مقدس بموجبه تراق الدماء، وهو أبو عبد الله المهاجر.

كتب المهاجر في كتابه، "مسائل من فقه الجهاد"، الذي يشار إليه بوجه عام باسم "فقه الدماء" إن "قطع الرؤوس بوحشية أمر مقصود بل محبب إلى الله ورسوله". وتوفر كتاباته الغطاء الشرعي الذي يسوغ جلّ التجاوزات الوحشية فضلا عن قتل الشيعة، بوصفهم كفارا، ومواليهم من السنّة، باعتبارهم مرتدين.

والكتاب الآخر الذي ينظر إليه بأنه كتيب إرشادات تنظيم الدولة ومن سبقه من التنظيمات، وربما بمنزلة كتاب "كفاحي"، الذي ألفه هتلر، بالنسبة إلى النازيين، هو كتاب "إدارة التوحش" لأبي بكر ناجي، الذي ظهر على الإنترنت في 2004.

وكتب فيه ناجي: "نحتاج إلى القتل ونحتاج لأن نفعل كما حدث مع بنى قريظة، فلابد من اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب"، في إشارة إلى قبيلة يهودية كانت تعيش في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع.

كانت إجازة ناجي للتوحش المثالي جزءا من استراتيجية أوسع نطاقا لتمهيد الطريق أمام قيام خلافة إسلامية. فيقدم في كتابه، الذي يقوم جزء منه على الدروس المستفادة أفغانستان، مخططا تفصيليا لكيفية استفزاز الغرب حتى يتدخلوا عسكريا وهذا سيحرّض المسلمين ليحتشدوا للجهاد، مما سيؤدي إلى السقوط الحتمي للعدو.

وهذا المخطط المحتمل ليس محضّ حيال، لو أخذت في الاعتبار أن الاتحاد السوفيتي انهار بعد عامين فقط من انسحابه من أفغانستان.

وقيل أن ناجي قُتل في غارة شنتها طائرة من دون طيار على إقليم وزيرستان الباكستاني عام 2008.

إخفاق العراق المُطبق

في عام 2001، تغيرت أوضاع الجهاديين تغيرا جذريا عقب هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر على الولايات المتحدة التي قصفت وحلفاؤها أفغانستان واجتاحت أراضيها، لاستئصال حركة طالبان منها، كما شنّت "حربا على الإرهاب" أوسع نطاقا ضد تنظيم القاعدة.

وقد اختبأ بن لادن في الأنفاق، أما الزرقاوي وغيره فقد فرّوا هاربين، وقد ألهّب ذلك حماس المليشيات المتفرقة، الذين احتاجوا بشدة إلى ساحة أخرى للقتال ليستفزوا فيها أعداءهم الغربيين ويواجهونهم.

وكان الحظ حليفهم، فلم يمر وقت طويل حتى منحهم الأمريكيون وحلفاؤهم هذه الفرصة.

فقد اتضح أن غزوهم للعراق في ربيع عام 2003، لم يكن مبررا على الإطلاق من حيث الدوافع التي اختاروها، فقد تبين أن إنتاج صدام حسين المزعوم لأسلحة الدمار الشامل ودعمه المفترض للإرهاب الدولي لم يكن لهما أي أساس من الصحة.

وبتفكيك كل بنى الدولة والأمن وتسريح آلاف الجنود والمسؤولين السّنة، أوجدوا الدولة "الوحشية" بحذافيرها، أو الفوضى العنيفة، التي تصورها أبو بكر ناجي ليعيش المجاهدون في كنفها.

غزو العراق في عام 2003

كان العراق في طريقه إلى أن يصبح ما يطلق عليه المسؤولون الأمريكيون اليوم "الورم الرئيسي" الذي سينتشر منه تنظيم الدولة في المنطقة.

كان السّنة، في ظل نظام حزب البعث الذي كان يقوده صدام حسين بقبضة من حديد، يحتلون مكان الصدارة في العراق عن الأغلبية الشيعة، الذين تربطهم روابط وثيقة بمعتنقي المذهب الشيعي عبر الحدود الإيرانية.

وقد جرّد التدخل العسكري بقيادة الولايات المتحدة السّنة من مزاياهم، مثيرا بذلك سخطا عارما وموفرا التربة الخصبة ليضرب الجهاديون السلفيون جذورهم فيها.

وسرعان ما تمكنوا من تمييز مناصريهم. ثم انتقل أبو مصعب الزرقاوي إلى هناك، وفي غضون شهور نظّم هجمات استفزازية طاحنة ووحشية موجهة نحو أهداف غربية والأغلبية الشيعة.

ودخل الزرقاوي، الذي أنشأ جماعة جديدة سميت باسم جماعة "التوحيد والجهاد" في تحالف وثيق مع خلايا سرية من بقايا نظام صدام حسين، ليجتمع ركنا التمرد السني معا تحت لواء: الجهاد المسلح والقومية العراقية السنية.
-->

 
 
 
 
  |   عدد القراء: 1797
 

مقالات ذات صلة

 
 
ارسل تعليقك على هذا المقال
 
الإسم الكامل *
 
 
البريد الإلكتروني*
 
 
التعليق*
 
 
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع