لا يبالغ المراقب إذا وصف الحياة السياسيّة في لبنان اليوم ببلوغ النظام الطائفيّ مرحلة ابتذاله المحميّ بالسلاح.

 

هذا لا يعني أنّ النظام المذكور، وهو دائماً يستحقّ النقد والنقض، كان أصلاً وسلفاً محكوماً بالوصول إلى هذه النتيجة البائسة. فالأمر، في أغلب الظنّ، ليس حتميّاً، وقد تحكّمت بانحطاطه الراهن ظروف وعوامل داخليّة وخارجيّة لا تتّسع لعرضها هذه العجالة.

 

على أيّة حال فنحن اليوم حيال التأميم الطائفيّ الكامل للسياسة، والمحروس بسلاح "مقاوم" يبقى من السذاجة، أو من الانحياز الفجّ، الفصل بين اشتغاله ومجمل اشتغال النظام.

 

والتأميم الكامل هذا لا يعني فحسب أنّ أحزاب الطوائف سدّت حائط الحاضر ثغرةً ثغرة، بل أنّها أيضاً استولت استيلاء كاملاً على أفق المستقبل. من هنا، بات أدنى توق إلى التغيير، على ما دلّت تجربة "الحراك" مثلاً، تقارب الحلم.

 

وواقع كهذا لا يجد ما يظهّره كما يظهّره الفساد وما يوشّيه من صفقات وتقاسم، حتى لتكاد السياسة والفساد يتعادلان تعادلاً تامّاً. لكنّ أهمّ ما في الفساد اللبنانيّ الراهن أنّه لم يعد محجوباً ومستتراً، إذ القادة الطائفيّون مطمئنون تماماً إلى أنّ إشهار فسادهم لن يؤثّر بتاتاً في مواقعهم ضمن طوائفهم، وفي عموم النظام تالياً. لهذا صار من العاديّ جدّاً ترداد السياسيّين هذه العبارة الوقحة من أنّنا "كلّنا فاسدون"!، وهم واثقون من أنّها تجلب عليهم من الإعجاب بحسّ سخريتهم أكثر كثيراً ممّا تجلب النقد والإدانة.

 

والعنصر الذي يضاف إلى لوحة التأميم يتجسّد في الاستقطاب الاحتكاريّ الذي نشأ في 2005 بين 8 و14 آذار، ولم يباشر انحلاله إلا قبل أقلّ من عامين. بيد أنّ الانحلال هذا لم يقترن بولادة قوى سياسيّة وبديلة، بل بانقشاع أشكال جديدة أكثر تمادياً للانحطاط.

 

في هذا المناخ تحديداً، وفي كنف التعطّل الذي يضرب المؤسّسات الدستوريّة، انفجر الإعداد للانتخابات البلديّة. وهنا، بدأت تصعد إلى السطح ظاهرات متفاوتة الاستتار، تعبّر عن الطاقة السياسيّة المعطّلة بسبب تأميم السياسة وحراسة تأميمها بالسلاح.

 

والكبت هذا إنّما يتّخذ شكلين رئيسين متفاوتين: واحداً، يشبه منطق العمل الطائفيّ وروحيّته، ويتركّز في البلدات والأرياف، مفاده انبعاث العائلات التي أقصتها أحزاب الطوائف عن الشأن العامّ عبر إضعاف موقعها و"كلمتها" في النسيج الأهليّ. أمّا الثاني، وهو طبعاً متقدّم على التركيبة السائدة، فيحاول أن يستخلص دوراً عامّاً للشبيبة والمتعلّمين وأصحاب المهن الحديثة من براثن أحزاب الطوائف. وكمثل "الحراك" من قبل، تتركّز المحاولة هذه في بيروت من خلال لائحة "بيروت مدينتي" التي تضمّ بعض خيرة من أنتجهم مجتمعنا المكبوت والمؤمّم سياسيّاً.

 

أمّا النجاح والإنجاز فلهما قصّة أخرى.