ثمّة إجماع داخلي وإقليمي، وحتى دولي، على أن لا خلاص للبنان والمنطقة من الأزمات العاصفة بها ما لم يجلس الجانبان السعودي والإيراني الى طاولة حوار تنتج حلولاً لهذه الأزمات نظراً لما لهما من ثقل وتأثير يعوّل عليه العالمان العربي والاسلامي أن يصبّ في مصلحتهما الراهنة والمستقبَلية.عندما يُسأل الإيرانيون لماذا لا يبادرون عملياً الى الحوار مع الجانب السعودي، يردون مؤكدين أنّ المسؤولين الإيرانيين لا ينفكون منذ زمن طويل عن إطلاق الموقف تلوَ الموقف، والمبادرة تلوَ المبادرة، داعين المسؤولين السعوديين الى التلاقي والحوار والتوافق لإقامة أفضل العلاقات الأخوية بين البلدين، وبين إيران وكلّ دول مجلس التعاون الخليجي، ويقولون «إنّ الجانب السعودي لا يتجاوب، وإنّ تجاوَبَ فإنه يضع شروطاً مسبَقة للدخول في أيّ حوار، ويتّهم طهران بالتدخل في شؤون الدول العربية والإسلامية وإثارة الفتنة المذهبية بين المسلمين».  

ويروي الإيرانيون أنّ أقوى المبادرات وأوضحها التي أطلقوها في اتجاه المملكة العربية السعودية كانت عندما تولّى الإصلاحيون ممثلين بالشيخ حسن روحاني رئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي خطوة قابلها الجانب السعودي يومها بارتياح معوِّلاً عليها لإنهاء الأزمة بينه وبين القيادة الإيرانية، ولكنه، في رأي الإيرانيين «لم يتجاوب مع ما طرحه روحاني من مواقف ومبادرات في اتجاه الرياض، الى درجة أنّ وزير الخارجية محمد جواد ظريف كتب مقالاً في جريدة «الشرق الأوسط» السعودية تحت عنوان «جيراننا أولويّتنا» وضمنه ما يشبه برنامج عمل لحوار بين السعودية وكلّ دول الخليج وإيران، ثمّ انطلق لاحقاً في جولة على هذه الدول وعبّر خلالها عن رغبته في أن تشمل الرياض، ولكنّ الجانب السعودي اعتذر عن استقباله يومها بسبب وعكة صحّية ألمّت آنذاك بالملك عبدالله بن عبد العزيز وتحول دون أن يستقبل رئيس الديبلوماسية الإيرانية، على أن يحصل هذا اللقاء في وقتٍ لاحق، ولكنّ الملك عبدالله توفاه الله بعد تلك الوعكة، ما أبقى العلاقة السعودية - الإيرانية في دائرة التوتر الى أن انفجرت حربُ اليمن التي ما تزال تتوالى جولاتها حتى الآن».

  الموقف السعودي  

وفي المقابل فإنّ الجانب السعودي يُحمّل إيران مسؤولية عدم المبادرة الى التحاور والتلاقي معه، بل إنه يتهم إيران بالمناورة، بحيث إنها «تقول ولا تفعل»، بمعنى أنها «تطرح مبادراتٍ ولكنها تعمل عكسها على أرض الواقع، بدليل تدخلها في سوريا والعراق واليمن والبحرين».  

ويضيف السعوديون «أنّ طهران تتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية ولا سيما منها دول الخليج العربي، فضلاً عن دول عربية أخرى مثل لبنان وسوريا والعراق والبحرين، وكذلك في بعض دول المغرب العربي، فضلاً عن تخطيطها لزعزعة الأمن والاستقرار في بعض دول الخليج، بدليل ما يُكتشف من حين الى آخر من خلايا وشبكات تعمل لمصلحتها، وآخرها خلية اكتُشفت قبل أيام في السعودية».   ويقول السعوديون أيضاً «إنّ هذه الممارسات الإيرانية هي التي تمنع المملكة من الدخول في أيّ حوار أو تلاقٍ مع الجانب الإيراني الذي عليه أن يبادر ويكون شفافاً في مبادراته حتى يمكن السعودية وغيرها من الدول تلقّف هذه المبادرات إيجاباً والشروع في حوار ينتهي بتحقيق مصالح جميع دول المنطقة العربية والإسلامية.

  ويؤكد السعوديون أنّ القيادة السعودية كانت تنتظر من الرئيس الإيراني أن يقف في قمّة منظمة التعاون الإسلامي المنعقدة في اسطنبول ويُطلق مبادرة يؤكد فيها رغبة بلاده بالتعاون مع كلّ الدول الإسلامية على معالجة الأزمات التي تعصف بالمنطقة والعالم الإسلامي، وإنهاء كلّ ما ينغّص العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية والعربية ـ الإيرانية، وكلّ ما يواجه المسلمين من قوى تطرّف وغلوّ لا علاقة لها بالدين الإسلامي الحنيف، والخروج من النزاعات والخلافات المذهبية والاحتكام الى القرآن والسنّة الشريفة، وأن يؤكد رغبة بلاده بالتعاون مع الجميع على معالجة الازمات التي تعانيها هذه الدولة العربية والإسلامية او تلك، ويشدّد على توقف إيران وبقية الدول الإسلامية عن التدخل في هذه الأزمات والتعاون بين الجميع على حلّها.  

وأنّ روحاني لو فعل ذلك لكان تجنّب صدور موقف إدانة بلاده في بيان القمّة ولكان صفّق له جميع رؤساء وممثلي الدولة الإسلامية الحاضرين في القمّة وساروا معه في هذه المبادرة، ولكنه أضاع فرصة تحتاج اليها بلاده قبل الآخرين في زمن خروجها من عزلتها الدولية الى آفاق التعاون مع العالم.   فإيران باتت دولة نووية بامتياز ودخلت نادي الدول النووية واتفقت مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية وتقوم بينها وبين روسيا والصين ومجموعة دول «البريكس» أفضل العلاقات وأمتنها، وبات من مصلحتها أن تتصالح مع الجميع، وخصوصاً مع الدول العربية والإسلامية، فهناك آلاف من الدول والشركات تقف الآن عند أبوابها للإنفتاح عليها وتعزيز العلاقات معها على كلّ المستويات، فضلاً عن دخول سوق الاستثمار الإيراني الواعد فيها بعد رفع العقوبات الدولية والغربية عنها.  

ولكن على رغم عدم مبادرة الرئيس الإيراني الى ما أراده الجانب السعودي، وربما آخرون، في قمّة اسطنبول الى طرح مقترحات لمعالجة ما يعاني منه العالم العربي والإسلامي، فإنّ كثيرين ممّن شاركوا في هذه القمّة استغربوا كيف أنّ الجانب التركي لم يبادر الى التقريب بين المملكة العربية السعودية وإيران، وكانت مغادرة الملك سلمان اسطنبول عائداً الى الرياض بعد إلقائه كلمته أمام رؤساء الوفود في القمّة، كافية للإشارة الى أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لم يبادر، أو أنه بادر ولم ينجح، في تحقيق تقارب بين الجانبين السعودي والإيراني الذي تربطه بكليهما علاقاتٌ متينة جداً، وكان يمكن هذا التقارب أن يحصل أو يؤسَس له بلقاء بين الملك سلمان والشيخ روحاني على هامش قمّة اسطنبول.  

وربما ستؤدّي نتائج قمّة اسطنبول بما احتواه بيانها الختامي من إتهام لإيران بـ»دعم الارهاب» وبـ»التدخل» في شؤون الدول العربية والإسلامية، فضلاً عما احتواه ضدّ حزب الله، الى مزيد من التأزّم راهناً في العلاقات السعودية ـ الإيرانية، ولكنّ ثمّة اقتناع لدى الجميع بأنّ هذا التأزّم آيلٌ عاجلاً أم آجلاً الى الزوال، خصوصاً أنّ الوسيط العماني، وربما وسطاء آخرين، عاودوا التحرّك في هذه المرحلة على خط الرياض ـ طهران. وربما كانت لمصر مبادرة ما أيضاً في هذا الاتجاه، فمَن يدري؟

الجمهورية